Culture Magazine Monday  12/05/2008 G Issue 247
قراءات
الأثنين 7 ,جمادى الاولى 1429   العدد  247
 

(ثمن الشوكولاتة)
بشائر بميلاد (بشائر) «3»
خالد بن أحمد الرفاعي

 

 

قراءة الحكاية:

حين نقوم بترتيب خيوط الحكاية في رواية (ثمن الشوكولاتة)، نجدها كالتالي:

(ملاك) طفلة صغيرة، نشأت في بيت مفكّك، وعاشت حالة أسرية هشّة، تعرّضت للاغتصاب في طفولتها من رجل سكّير مقابل قطعة من الشوكولاتة أغراها بها، تأثرت (ملاك) بهذا الموقف تأثيراً سلبياً، وكبر معها هذا الموقف لما كبرت فارتبط لديها الأخذ بالعطاء، عشقت الثراء، ودفعت له الثمن الذي دفعته للشوكولاتة (أنا أريد حباً يرضيني، يحقِّق لي كلَّ ما أريد وما أطمح إليه، لا حباً يدفعني إلى استمراء الفقر والحرمان والانكفاء على الإحباطات المتتالية) (ص:48)، تبرز لها فرصة في حياتها لكي تعود إلى طهرها وملائكيتها، لكنها تأبى، وتنتهي الرواية -كما ابتدأت- بالأخذ والعطاء...

يمكن أن يكون ما مضى مختصراً ضخماً للحكاية كلِّها، لكنّ الذي يقرؤونها بتفاصيلها الدقيقة يجد إشكالية كبيرة في بنائها، تتجلى في تشتّتها، وعدم قدرتها على النهوض برؤية واضحة ومحدّدة تفسِّر لنا سرَّ هذا التغيّر الطارئ على شخصية (ملاك)، وانتقالها من اليمين إلى الشمال، من البياض إلى السواد، ولأنّ الرواية متسعة، وفوضوية، وعاجزة عن ضبط سيرها وإيقاع رؤيتها فقد قدّمت عدداً من الرؤى، تصلح كلُّ واحدة منها لأنْ تكون الرؤية الساسية، ولا يمكن البتة جمعها، أو محاولة إقامة شيء من التعايش السلمي بينها، وفيما يلي سنحاول تسليط الضوء على أبرز هذه الرؤى التي قدّمتها الحكاية في صورتها المتكاملة:

1- خطورة المادة على العلاقة الاجتماعية، فالرواية تبرز وجهاً من الوجوه السيئة لاهتمام الإنسان بالمادة، ف(ملاك) ركضت خلف المادة - متأثِّرة ببيئتها الأسرية المادية، والعقدة التي تعرّضت لها في الصغر-، واستطاعت أن تحقِّق ما لم تحقِّقه صديقاتها من المال والذهب والممتلكات، لكنها في المقابل - وفي ساعات هادئة تقضيها مع النفس - تشعر بأنها تفتقد شيئاً كبيراً، شيئاً لا يحدّد بثمن، هو الاندماج، والإحساس براحة الضمير، والشعور بأسمى المشاعر الإنسانية، نقرأ: (لثوانٍ داعبت مخيلتي صور أبنائي التوأم راشد وناهد، لكنها غادرت عجلى، ثلاث سنوات مذ ألقيتهم على ذراعي والدهم في عمر التسعة أشهر وغادرت، لم أرهما، ولم أشتقْ إليهما، ما زلت بين الحين والحين أجد شيئاً من بقاياهما في منزل أبي، حذاء قطني صغير لناهد، وزجاجة الحليب الخاصة براشد، بعض ألعابهما، صورهما، ومناغاتهما، التي أسمعها تهدهدني حتى أغفو في ليالي الألم. يا إلهي، هل يعقل أن يكون هذا القلب القاسي قلب أمّ؟؟) (ص35).

ولذلك هانت عليها نفسها حين زارت صديقتها (حورية) من بيتها الصغير، ورأتها تعيش في عالم من السعادة لم تتحصّل هي عليه رغم كلِّ مظاهر الثراء التي تحيط بها، تخاطبها (حورية): (فكري جيداً يا ملاك، المال والمتعة أشياء زائلة، فلا تلهثي خلف سراب...، ابحثي عن المتعة والسعادة الحقيقية بمنظور آخر غير ما تعودتِ عليه، فليس المال هو المرادف الحقيقي للسعادة، ابحثي عن الحبِّ المجرّد من كلِّ مصلحة، فهو وحده قادر على صنع المعجزات...، عودي إلى الله يا ملاك، ولن تستطيعي ذلك إلا إذا أخرجت حبَّ المال والدنيا من قلبك...) (ص75-78).

2- كذلك تميل الحكاية إلى تقديم التفكُّك الأسري بوصفه ذا أثر كبير على الشخصية، ف(ملاك) لم تكن كذلك إلا لأنها بنت لأبوين لم يؤلِّف الحبُّ بينهما، ولم تجمعهما المودّة في ظلّها، ولذلك انصرف كلُّ واحد منهما يبحث عن حياته الخاصة (انظر: ص32)، ووجد أولادهما أنفسهم خارج العالم، وهذا ما حاولت الرواية تجسيده كثيراً من خلال بنية المكانت تحديداً...، نقرأ: (نزلت إلى الصالة، كانت كعادتها توزِّع ابتسامات الرضات عن العابرين، وتتوق إلى أن تضمَّهم بأحضانها، أو هكذا يخيّل إلي، ورغم طول العهد إلا أنها لم تيأس على ما يبدو فهي دائماً في كامل بهجتها، مستعدة لأي لقاء محتمل...، استوقفني ركننا العائلي طويلاً، كان خاوياً يشعر بالشجن) (ص:57).

ونقرأ: (اقتربت من هديل، رفعتها من على الأرض، كانت تقطر دماً وعرقاً، ضممتها إلى صدري لكنها رفعت رأسها والتفتت إلى أمي، كانت جالسة في أقاصي الصالة التي كانت خير خير شاهد على غرابة وضعنا، وتشّتتنا...)(ص:79).

ونقرأ: (دخلتُ إلى البيت، كانت الصالة خاوية على عروشها كالعادة، تتأمّل العابرين فقط، وتعرض عليهم بهندامها الجميل المكوث فيها لبعض الوقت صامة إلا من بعض الأصوات المنبعثة من هنا وهناك) (ص:123).

فمن خلال هذه المقتطفات الثلاثة نلحظ أنّ الوصف قد انتهى إلى رسم صورة واحدة للمكان، بدا فيها رتيباً خاوياً، يكشف عن تفرِّق أهله وتفكّكهم، والغريب أن كلَّ مقطع من هذه المقاطع ظهر بعد تحوّل مهم طرأ على شخصية (ملاك)/ ألرواية، فالوصف الأوّل جاء في لحظة ركضها الحثيث خلف المادة، واسترسالها خلف لهاث المتعة، وجاء الوصف الثاني بعد عودتها من زيارة صديقتها (حورية)، وتأثّرها بما رأته وسمعته عن حياتها المستقرذة في ظلّ زوجها وأولادها، وجاء الوصف الثالث بعد طلاقها من (ياسر)، الزوج الذي وهبها المغفرة، وأعطاها فرصة كبيرة لتعديل مجرى حياتها...

إذن كان هناك تغيّر على مستوى الشخصية يقابله ثبات على مستوى البيئة، وكانت إحساسات (ملاك) بالمكان الذي لا يتناغم مع تغيّراتها الداخلية سبباً مهماً في ضياعها، وضياع جميع إخوتها.

3- كذلك من الرؤى التي طرحتها الحكاية، وكشفت بها عن سرّ التغيّر الكبير الذي طرأ على شخصية (ملاك): إشكالية تزويج المرأة رغماً عنها، ودون الاستماع إلى رأيها، وتفهم وجهة نظرها، حصل هذا مع (أمّ ملاك)، الفتاة المصرية الجميلة التي زوجها أهلها دون العشرين من رجل أربعيني؛ رغبة في ثروته الطائلة (ص:24)، وكانت النتيجة زواجاً فاشلاً في ظلِّ وعود زائفة، فظلّ هذا الشعور منعكساً عليها حتى بعد أن كبر أولادها، وامتدّ تأثيره إليهم، نقرأ: (للحظة شعرتُ بقربها مني...، يا إلهي، كم يستهويني هذا القرب وكم أفتقده، كنت أتمنى أن أحشر نفسي بجانبها في المقعد، وألفّ ذراعي حول رقبتها، وأقول لها: قولي لي كلمة حبٍّ واحدة أشتاقها مذ وعيت على الدنيا، أشعريني أنني ابنتك، ولكن لا جدوى من كلِّ هذا) (ص:24).

بدت الأمُّ المحرومة من الحبِّ سبباً في هذا الحرمان العاطفي الذي تعاني منه بناتها، ولذلك ظلّت شخصية الأم في الرواية ساكنة فنياً لتعبِّر لنا عن سكونها العاطفي، وعجزها عن إحداث أي تغير نوعي في هذا المجال، لم تتفاعل مع ابنتها (أسماء) حين عادت إلى البيت مطلّقة (ص30)، ولم تمارس أياً من صلاحياتها في درع (إيمان) عن اللعب بالنّار، والخروج مع صديقتها، بل ربما باركت ذلك بشكل أو بآخر (ص37)...........(يتبع).

ملحوظة: في الحلقة القادمة سنستكمل عرض الرؤى التي تعطيها الحكاية، وسنناقش فوضويتها، محاولين الوصول إلى أبرز معطياتها الرؤيوية، وأقواها.

- الرياض alrafai16@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة