Culture Magazine Monday  12/05/2008 G Issue 247
فضاءات
الأثنين 7 ,جمادى الاولى 1429   العدد  247
 
سيمونوف وهمنغواي
جمعتهما الكتابة عن الحرب وفرقتهما الكتابة عن الحرّية
منذر بدر حلّوم

 

 

(في الماضي, عثر المجد الصحافي على رمزه في اسم إرنست همنغواي العظيم)

ميلان كونديرا (من رواية الخلود)

في رسالة إلى قسطنطين سيمونوف كتب همنغواي: (أعلم أنّه سيترتب عليكم تعاطي مهنة الكتابة الصحفية كما نحن جميعاً. ولكن اعلموا أن هذه المهنة خطيئة بحق الروح القدس: إذا كنت قادراً على الكتابة كما يلزم... وفي نهاية الأمر فإن ذلك سيمارس تأثيراً سلبياً, على كل حال, حتى ولو كنت تزمع كتابة روائع: ولكن لِمَ الكتابة أيضاً, فهلا لأجل كسب الرزق فقط؟). نشرت الرسالة التي كان همنغواي قد كتبها في حزيران 1946, والتي منها هذا المقبوس في كتاب (كنت وأبقى صحفياً) الذي صدرت ترجمته العربية عن دار التقدم عام 1989. وكان سيمونوف الذي أَجَلّ العمل الصحفي, قد سمح لنفسه, كما قدّم للرسالة, بأن يحذف منها جملة رأى فيها هزلاً لاذعاً من سيدته الصحافة, ممارساً دور الرقيب السوفياتي الأخلاقي والسياسي. يقول سيمونوف: (وإليكم هذه الرسالة التي أوردها هنا كاملة, مع حذف جملة واحدة فقط حول ما يشكّله الولوع الزائد بالصحافة من خطر على الكاتب؛ إن الهزل اللاذع لهذه الجملة يتعدى حدود ما مسموح كتابته في الصحافة... وأضيف - والقول لسيمونوف - إن ذلك الموقف الارتيابي من ممارسة الصحافة, الذي يتخلل الرسالة, إنّما يتعارض على العموم, مع ممارسة همنغواي الشخصية, الذي بقي طوال حياته الأدبية كلها, صحفياً لامعاً). وفي تسويغه للحذف يفوت سيمونوف, الذي سبق أن ارتكز في مقدمته لروايته (الأحياء والأموات) إلى مثل روسي يقول: (لا تكتمل الأغنية إذا حذفت منها كلمة)، سيمونوف نفسه الذي قال في همنغواي: (وعندما يتساءلون: بِمَ همنغواي قريب إلى قلوبنا؟ فإنك لتجيب مجدداً: قريب ببحثه الجريء عن الحقيقة وسط أشد ظروف القرن قساوة ورهبة)، يفوته أن من أهم أسباب نجاح الصحفي ارتيابه بكل شيء, بما في ذلك الارتياب بالكتابة, ارتياباً يدفع إلى البحث عن حقائق الأشياء, مع (أن كتابة الحقيقة عن الحرب - كتب همنغواي وسط لهيب الحرب الأهلية الإسبانية - أمر خطر جداً, وخطر جداً التنقيب عن الحقيقة..فعندما يذهب إنسان إلى الجبهة للتفتيش عن الحقيقة فقد يجد الموت بدلاً منها)، وبما في ذلك الارتياب بفكرة الحياة نفسها, ارتياباً قد يدفع إلى الانتحار, الأمر الذي فعله همنغواي, حين يكون الانتحار موقفاً من الحياة التي تجري بما يعارض مفهومها الذي أسبغه عليها البشر الباحثون عن العدالة والكرامة والحرية وربما الخلود! أجل فكثيرون ينتحرون نكاية بالموت وبأسباب الموت. أم على الصحافة أن تكون لسان حال الأقوياء والقتلة المنتصرين فقط؟ وأمّا الرغبة في الخلود التي أنشأ عليها ميلان كونديرا بحثاً روائياً رائعاً فيصعب, حتى على سيمونوف وهمنغواي ادعاء البراءة منها ولا يبدو تفريق همنغواي في حواره مع غوته, بوصفهما شخصيتين روائيتين في (الخلود), بين خلود أعماله وخلوده الشخصي مقنعاً: (أن تكون كتبي خالدة, لا أمانع قط...أمّا أنا كإنسان, كإرنست همنغواي, فلا أبالي بالخلود)! ف(همنغواي الإنسان لا يتجزأ عن همنغواي الكاتب, عن كتبه وأبطاله). إلى هذا القول ينتهي سيمونوف بعد قراءة أعمال همنغواي والقراءة عنه. وقد تكون, أيضاً, من قبيل السعي إلى الخلود, عبر انبعاث الرماد في الذاكرة, وصية سيمونوف بنثر رفاته في ميدان يونيتش, حيث قُدَّ حجر حفرت عليه عبارة (كان طيلة حياته يتذكر ميدان معركة 1941 هذا, وأوصى بنثر رفاته هنا).

وبالعودة إلى دور الرقيب الذي مارسه سيمونوف على رسالة همنغواي, أتساءل عمّا إذا كانت الرعاية الرسمية لبطل العمل الاشتراكي وحائز جائزة لينين وجوائز الدولة, الأمر الذي لم يتح لكثيرين غيره, أوقعته وهو صاحب قصيدة (انتظريني) التي تحوّلت إلى تعويذة ضد الموت على الجبهات في شرك السلطة السوفياتية الشمولية, فإذا به يقول ما يراد له أن يقول وليس فقط حين أُطلق جناحاه ليجوب الغرب بل وفي كل مكان, كما سبق أن أوقعت غوركي قبل أن تقتله, أم هو الإيمان بمبدئية التضاد مع الغرب الإمبريالي بما في ذلك التضاد مع قيمة الحرية التي يقول بها هذا الغرب والتضاد مع الحق في الارتياب بكل شيء الذي كان أساساً لنهضة الغرب (الملعون) العلمية, وأحد أهم ركائز قوته إلى اليوم؟ ومع ذلك فقد يبدو ممكناً فهم موقف سيمونوف في سياقه التاريخي, ذلك أنّ من الصعب على شخص رأى كيف وضع بلده وشعبه في السعير, وكان هو نفسه في الأتون, أن يتفحّص الأيديولوجيا التي أريد لحَمَلتها وللناس المشمولين بسلطتها أن يبيدوا أو يبادوا, ويرى فيها تضييقاً على الحرية وتعسفاً واستبداداً؟ أليست الحروب أقرب الأصدقاء إلى الطغاة ففي معمة المعركة, وحيث (لا صوت يعلو على صوت البندقية), يمكن من فوهات البنادق ذاتها فتح النار على أعداء النظام وأعداء الوطن معاً, دون أن تكون لدى أحد القدرة أو العزم أو الوقت الكافي للتفريق بينهما. وأمّا الدكتاتور الصغير فله حروبه الصغيرة كما للدكتاتور الكبير حروبه الكبيرة, وما أكثر ما اختبرنا نحن العرب ذلك.

على الخلاف من سيمونوف الذي يبدو كأنّه كان يفتقر إلى روح السخرية, كان همنغواي قادراً على السخرية حتى من الأعمال التي انبنت حياته عليها, كمثل مشاركته في الحروب (العالمية الأولى والأهلية الإسبانية والعالمية الثانية), وكتابته عنها بوصفه شاهداً على جنون البشرية ووحشيتها, الأمر الذي اشترك فيه مع سيمونوف, فها هو يقول في رسالته إلى سيمونوف: (وجاء إليّ أندريه مارلو وسألني عن عدد الأشخاص الذين تحت قيادتي. فأجبته إن عددهم لا أكثر من 200 شخصاً, وقد يكون 14 حتى 60, فأسعده ذلك وتنفّس الصعداء لأنّه كان, كما قال, يقود ألفي شخص, وهكذا فإن سمعته الأدبية لم تصب بسوء). وهي سخرية من الحرب ومن الكتابة في آن.

وأمّا المشترك بين همنغواي وسيمونوف فهو موقفهما من الحرب, موقف مبني على معرفة بها مختبرة بالدم. فسيمونوف الشاعر الذي لا تقل عظمة كتابته الشعرية عن الحب عن عظمة نثره عن الحرب, كتب عن الحرب, كما فعل همنغواي, ليرينا بشاعتها من أجل ألا نسمح باندلاعها مرّة ثانية في أي مكان, مؤمناً بأننا (نحن البشر قادرون على الحيلولة دون اندلاعها).

وعلى الرغم من أن لقاء الرجلين تعذّر, فلم تتح الظروف لسيمونوف تلبية دعوة همنغواي لزيارته في كوبا, ولم يتمكن من زيارة ذلك البيت الذي كان ينتظر منه أن يضم الرجلين إلى مائدة مشتركة بعد عودتهما من رحلات الصيد الموعوده إلا بعد موت همنغواي, فثمة مشتركات كثيرة ليس أقلّها شأناً قول آمنا به, وعملنا من أجله, كل على طريقته, عبّر عنه سيمونوف, في مقدمته المؤرخة بـ 17-5-1962 لروايته (الأحياء والأموات) بصيغة جازمة: (لئِن كان الناس الذين يتحلون بالشرف والكرامة والواجب يظلون في ذاكرتي ووعيي أحياء حتى بعد موتهم, فإن السفلة والجبناء أموات بالنسبة لي حتى وإن ظلوا على قيد الحياة)، ولم يكن أقل جزماً ما جاء على لسان همنغواي في الكلمة التي ألقاها في المؤتمر الثاني للكتاب الأمريكيين عام 1937: (توجد أشياء أسوأ من الحرب. فالجبن أسوأ, والخيانة أسوأ, والأنانية أسوأ).

وأمّا الرجولة التي تقتضي مواجهة الموت صوناً لحيوات الناس في الحروب فثمّة صنو لها هو رجولة تصون حرية الأحياء وكرامتهم. وعند عتبة حرية القول افترق الرجلان, دون أن يلتقيا.

- اللاذقية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة