Culture Magazine Monday  12/05/2008 G Issue 247
فضاءات
الأثنين 7 ,جمادى الاولى 1429   العدد  247
 

الطريق نحو الفيلم التسجيلي(1 - 2)
قاسم حول

 

 

بين الحين والآخر نسمع عن مبادرة سينمائية في بلدان ليست فيها نهضة سينمائية وخاصة منطقة الخليج حيث السينما حديثة العهد والإنتاج السينمائي ليست له تقاليد عمل في هذا المضمار، وقد بدأت فكرة إقامة المهرجانات السينمائية كبداية لزرع نهضة سينمائية في المنطقة، كما تقام دورات لهواة السينما ويصار إلى إنتاج بعض الأفلام التسجيلية حيث الفيلم الروائي هو مرحلة لاحقة تحتاج إلى خبرة في هذا المجال.

لقد جرت محاولات سينمائية في الكويت قبل أكثر من ثلاثين عاما بدأها السينمائي الكويتي خالد الصديق في تجربته الأولى (بس يا بحر) التي أثارت اهتمام السينمائيين في العالم لكن مسار هذا النوع من الأفلام لم تكتب له الديمومة، ولم نقرأ دراسات أو بحوثاً عن سبب تعثر السينما الوليدة في الكويت، كما أنتج نجم عبد الكريم فيلما متوسط الطول وكان هو الآخر مبعث انتباه النقاد. اليوم تبدأ في المملكة العربية السعودية محاولات لسينما وثائقية من داخل المملكة إضافة إلى أفلام عن المملكة منتجة من خارجها ولكن ما يهمنا هو سينما الداخل، ما نطلق عليه السينما الوطنية. ولأن التجربة وليدة في المملكة وأيضا في منطقة الخليج فلا بد من القول هنا إن البداية السينمائية تسجيليا هي بداية صحية وسليمة، وهي تشكل الأساس الواقعي للسينما الروائية لأن السينما في كل اتجاهاتها هي فن الواقع. هذه التجارب الوليدة تفرض علينا أن نسهم في رعايتها سواء في مهرجانات السينما أو في رسم الطريق السليم لها من خلال تجاربنا المتواضعة في هذا المجال.

ينظر البعض إلى الفيلم التسجيلي على أنه مجموعة من المشاهد واللقطات التي تدعم بالصوت (التعليق) وبشيء من (الموسيقى) وهو، أي الفيلم التسجيلي مجرد كاميرا مضافا إليه واقع. ولم يكن بحساب الكثير من منتجي ومخرجي الأفلام التسجيلية ان الفيلم التسجيلي هو عمل يتسم بالموضوعية في كشف الواقع ويحتاج إلى بناء خاص مختلف تماما عن صيغة بناء الفيلم الروائي. فالفيلم الروائي تحكم قواعد البناء الدرامية التي وضعتها أسس بناء المسرحية وبناء الشخصيات وتنامي الأحداث المعبرة عن أفكار متعددة (ثيمات) تقود إلى الفكرة الأساسية. فيما الفيلم التسجيلي قد يفتقر إلى عناصر الدراما أي التمثيل مع وجود حالات يحق فيها للمخرج اللجوء إلى التمثيل.

عام 1955 اجتمع في مدينة لايبزغ الألمانية عدد من تسجيلي العالم وهم: البريطاني جريرسون والهولندي يورنس إيفنز والدانماركي كريستينسن والكوبي سانتياغو الفارز والجزائري الأخضر حامينا والبوليفي إكتافيو والروسي رومان كارمن والألمانية تورينداك، وأصدروا بيانا يعلنون فيه انطلاق مهرجان الفيلم التسجيلي وكتبوا إلى الرسام الإسباني بيكاسو للموافقة على اختيار لوحة الحمامة شعارا لمهرجان لايبزغ الذي تقرر أن يكون شعاره (أفلام العالم من اجل سلام العالم) منذ ذلك التأريخ بدأت تتبلور أسس إنتاج وإخراج الفيلم التسجيلي، لأن المهرجان الذي كان ينعقد سنويا تحت دعم الدولة الألمانية الاشتراكية السابقة في شهر نوفمبر من كل عام قد أتاح للسينمائيين مناقشة الأفلام المعروضة. تلك النقاشات كانت تسجل وتصدر في مجلة المهرجان وكتابه الدوري حتى أصدر الناقد الألماني هيرلنغهاوس بعد سنوات من انعقاد المهرجان كتابه الشهير (تسجيليو العالم) والذي سجل فيه تجارب عدد من السينمائيين من رواد السينما التسجيلية.

وللأسف فإن هذا الكتاب الهام الذي سجل تجارب السينمائيين التسجيليين في العالم لم يترجم للعربية، ولو ترجم لشكل نهجا هاما للسينما التسجيلية لعالم لا يزال بكرا وغير مكتشف سينمائيا.

يعتقد المخرج الروسي دزيغا فيرتوف أن الفيلم السينمائي هو الفيلم التسجيلي وهو بهذا يلغي أهمية وجود الفيلم الروائي وطبعا هذا الرأي يناقش مع المخرج وتصوراته ولكن في نفس الوقت ينم هذا الرأي عن أهمية الفيلم التسجيلي في التعبير عن الواقع بصدق. ومع أن هذا الواقع قابل هو للتزييف حيث اللقطة إذا ما أضيفت إلى لقطة ثانية فإنها تعطي معنى ثالثا حسب تعبير إيزنشتان ولكن الوثيقة بحد ذاتها كلقطة واحدة هي وثيقة بغض النظر عن كيفية استخدامها، هي حقيقة موضوعية.

بعد أن تعززت فكرة ونهج الفيلم التسجيلي صارت تتأسس صالات سينما تجريبية محدودة الكراسي لا تتجاوز عدد استيعابها للمشاهدين أكثر من مائة إلى مائة وخمسين مقعدا، بدأت تستقطب المشاهدين من ذوي الرغبة في استلهام الثقافة السينمائية الجديدة المتمثلة بالفيلم التسجيلي.

وبتطور البث التلفزيوني سعت الكثير من المحطات إلى اعتماد الفيلم التسجيلي ضمن هيكليتها البرامجية فظهرت اتجاهات تسمح بتطور فكرة الفيلم التسجيلي دراميا.

كانت مفردات لغة الفيلم التسجيلي تسمح بالتمثيل في بداية نشوء الفيلم التسجيلي ولكن بدون ممثل. فعلى سبيل المثال المخرج يريد أن يصور نجارا يصنع كرسيا ولكن في وقت التصوير لا يوجد عمل فبإمكان المخرج الطلب من النجار المباشرة بصناعة كرسي من أجل تصوير الوثيقة ولكن لا يحق للمخرج أن يغير النجار بممثل يؤدي هذه المهمة. اليوم انطلقت فكرة جديدة في لغة الفيلم التسجيلي وهي المتعلقة بالماضي وأحداثه قبل ظهور الكاميرا السينمائية أو في حال لم تستطع الكاميرا السينمائية تسجيل واقعة ما أو حدث ما. فعلى سبيل المثال هناك حوارات سرية بين قادة العالم ومفاوضات وأحداث هامة حصلت في التأريخ سياسيا أو اجتماعيا، فإن مخرجي الأفلام التسجيلية بدأوا بتمثيل تلك الأحداث والإتيان بممثلين يؤدون المشاهد ولكن بطريقة ليست ذات طابع درامي توجب على الممثل أداء دور الشخصية التي صعب تصويرها، بل إن الفيلم يعيد تسجيل الأحداث بمواقعها الأصلية وتحريك شخصيات قريبة من الشخصيات المفقودة مدعمة بالتعليق والإيضاح ما يشعرنا حقا بأننا أمام حقيقة واقعية وليست درامية.

لقد حاول التلفزيون استيعاب الفيلم التسجيلي وتجييره لشاشته الصغيرة أو حتى المتوسطة في سينما البيت الجديدة. ولكن لم يعمد هذا التلفزيون للأسف الشديد لمتابعة النهج الصحيح للسينما التسجيلية وحاول أن يقدمه على أنه فيلم الريبورتاج، ففقد الفيلم التسجيلي جماله عبر شاشة التلفزيون وفي ذات الوقت تراجعت فكرة صالات عرض الفيلم التسجيلي بعد أن صار الجمهور يتابع هذا النوع من الأفلام عبر شاشات التلفزة.

دعونا الآن نتحدث عن صيغة الفيلم التسجيلي التي أسسها لنا رواد السينما التسجيلية. يطالب الكثير من المنتجين من المخرجين أن يقدموا السيناريو الكامل للفيلم قبل المباشرة بإنتاجه. وهذا من وجهة نظري هو الطلب المستحيل. ففي الفيلم الروائي يمكن كتابة السيناريو الأدبي وأحيانا حتى السيناريو الفني دون معايشة موقع التصوير، ولكن في الفيلم التسجيلي تصعب كتابة السيناريو الفني والسيناريو الأدبي.

إن كتابة سيناريو محكم المشاهد واللقطات يفقد الفيلم التسجيلي تلقائيته وشفافيته وجماله. ينبغي بداية على المخرج أن يذهب إلى مواقع تصوير فيلمه التسجيلي ويدرسها دون أن يتحرش بمكوناتها وخاصة الإنسانية لأن الأشخاص الذين يدركون بأنهم سوف يشكلون مكونات لفيلم على الشاشة سوف يمثلون أدوارهم عندما يتم الاتفاق معهم مسبقا ويصيرون يحلمون كثيرا بين وقت لقائهم بالمخرج حتى يوم التصوير وأحيانا يحضرون أنفسهم لملابس خاصة وطريقة تجميل بالنسبة للعناصر النسائية، فيأتي الفيلم مفتعلا باهتا وغير حقيقي ويفتقر إلى التلقائية. ما هو مطلوب من المخرج أن يرصد بهدوء ودقة وذكاء مكونات موضوعه، الطبيعية والبشرية دون أن يعطي أية معلومات للعناصر البشرية بنيته وطريقته في التصوير. ومن غير الصحيح أن يحضر صاحب الفيلم التسجيلي أسئلته بدقة والأهم أن لا يعطيها للعناصر الموجودة في مكونات الواقع حتى لا يعطيهم فرصة التفكير والتبرير وتزويق الكلمات ما يسقط سمة التلقائية عن الفيلم التسجيلي وهي أهم سمة في قيمتها الجمالية.

عندما ذهبت إلى منطقة الأهوار جنوبي العراق عام 1975 بصدد دراسة المنطقة وتصوير فيلم تسجيلي عنها التقيت عدة شخصيات غنية بمعلوماتها عن المنطقة وتنطوي حياتهم الشخصية على الكثير مما يثير كشفه أمام المشاهد فلم أتوغل معهم بل سجلت أسماءهم حتى دون أن أفعل ذلك أمامهم وحاولت أن أحصل على معلومات من شخصيات اجتماعية ومعلمين في المنطقة عن حياتهم وطلبت منهم أن لا ينقلوا ما سألته عنهم إلى الأشخاص أنفسهم وتركتهم بعيدا عن فكرة الفيلم بشكل كامل. وعندما عدت مع فريق التصوير وضعت الكاميرا امامهم وفاجأتهم بالأسئلة وتركتهم يقولون ما لديهم ثم حولت بعض أفكارهم إلى مشاهد وضعتهم هم أنفسهم فيها. كما لاحظت أن تلاميذ المدرسة في الأهوار ليست لديهم فكرة عن صناعة السكر كما أنهم لم يغادروا هذه المنطقة المائية (الأهوار) ولم يتعرفوا على المدن وعلى اليابسة في مساحاتها الواسعة، فقررت أخذهم للمدينة وأدخلتهم في مصنع للسكر وسجلت بكاميرا مخفية وبلقطات مقربة ردود فعلهم واندهاشهم من عملية تكوين السكر. بعد ذلك طلبت من مدير المدرسة سجل الطلبة ولاحظت أن العديد من الطلاب قد تركوا المدرسة وإن الملاحظات الإدارية عنهم تنم عن الإيجابية ولكن ظروف الحياة الاجتماعية دفعتهم لترك الدراسة فصورت تلك الصفحات وملاحظات الإدارة بصددها. وفي أحد الأيام ونحن نصور المياه والزوارق شاهدت امرأة على جزيرة صغيرة من القصب وسط الماء وهي تموت فنزلنا ولم تكن الإضاءة كافية وكنا نصور بفيلم سينمائي قياس 35 ملمتر الذي يحتاج إلى إضاءة كثيرة، فأخرجت عاكسة الضوء ووقفت قرب وجهها مسلطا الضوء عليها وسجلنا لحظات مفارقتها الحياة وكنت أنا في الكادر، هي تموت وأنا أسلط الضوء على قسمات وجهها في لحظاتها الأخيرة وكان مشهدا مؤثرا بعد أن شاهدته على الشاشة، لكن السلطة ذات السمة الشمولية رفضت إدراج هذا المشهد المؤثر في الفيلم معتقدين بأن ذلك يسيء إلى طبيعة نظامهم في عدم توفير المستشفيات في منطقة الأهوار.

من هنا فإن الفيلم التسجيلي يكتبه الواقع أحيانا وما على المخرج سوى أن يتمتع بعين ذكية في رصد الأحداث الواقعية ومن هنا أيضا ينبغي على المنتج أن لا يطالب مخرج الفيلم التسجيلي بسيناريو متكامل لأنه يدخل في خانة المستحيل ولا يحقق فيلما تسجيليا بالمعنى الصحيح للفيلم التسجيلي.

إن آخر كتابة للفيلم التسجيلي تحصل على طاولة المونتاج أو في برنامج المونتاج على الكومبيوتر حيث بعد أن يصار إلى تجميع اللقطات في مشاهد ووفق المعالجة السينمائية التي يصار إلى تدوينها بعد دراسة الواقع ومواقع التصوير تبدأ عملية كتابة مونتاجية وعلى ضوئها يصار إلى كتابة التعليق.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة