Culture Magazine Monday  12/05/2008 G Issue 247
فضاءات
الأثنين 7 ,جمادى الاولى 1429   العدد  247
 

قبّعة الإخفاء
د. شهلا العجيلي

 

 

تبدأ المعجزات بفكرة قد تطرق باب المخيّلة البشريّة قروناً، ثم تتجلّى في ما نسمّيه بالمخترع العلميّ. ولعلّ قبّعة الإخفاء التي حلم كثير منّا بارتدائها، حين التقينا بها في الحكايات القديمة، واحدة من الأعاجيب التي احتفظ الإنسان برغبته في تحققها على نحو ما، وهاهي تتحقّق اليوم فكرةً، عبر علاقة الإنسان بالشبكة الإلكترونيّة (الإنترنت) أو الشابكة، كما أقرّها مجمع اللغة العربية.

إنّ الدخول إلى المنتديات الإلكترونية، بأسماء مستعارة، هو تماماً كارتداء قبّعة الإخفاء، لكن التمايز بين القبعة في الحكاية، والقبّعة في المنتدى الإلكتروني، هو أن الأولى حيازة لامتياز، يختص به شخص ينماز من الآخرين، الذي يعيشون حياتهم المعتادة، ويظهرون في المكان، فصاحب القبعة وحده تتكشّف له الخبايا، وتنفتح أمامه المغاليق، ليبقى الآخرون في ذهول وحيرة ممّا يجري حولهم. أمّا العلم فيصيّر المنجز في متناول الجميع، ممّا يترتّب عليه شيوع قبعات الإخفاء، وتمترس الكثيرين وراء أسماء مستعارة، تخلق عالماً آخر من الزيف، الذي أراد المرء الهروب منه في الحياة الحقيقيّة، لاسيّما أنّ العلاقات الإلكترونيّة لا ينظمها ميثاق شرف واضح، وهذا ما نلمسه بين المتعاملين في المنتديات المفتوحة للدردشة والحوارات العامة بخاصّة.

تكمن فكرة قبعة الإخفاء بأوضح تجلياتها في دخولي مع طلابي منتداهم الخاصّ، من غير أن يشعروا بأنّني أستاذتهم، إذ أدخل بوصفي واحدة منهم، أتابع حواراتهم وآراءهم بالزملاء وبي، أشاركهم أحياناً، أستفزهم لأعرف ما يبطنون وكيف يفكرون، ثم أعود إلى القاعة في اليوم التالي بنشوة الكشف.

لكثرة أسمائي المستعارة كدت أنسى اسمي، إذ أتردّد على منتديات عديدة، ولي في كلّ منها اسم مستعار، وكثيراً ما يختلط الأمر عليّ، فأدخل أحدها بالاسم المخصص للآخر، فتنبّهني رسالة تقول: إن اسم المستخدم غير صحيح. لقد بدأت علاقتي مع الشبكة كمحاولة لمعرفة الجديد، ومجاراة اللعبة التي يلعبها الملايين في هذا العالم، فصرت أنهي أعمالي بسرعة، كي أقطع علاقتي بعالم الحقيقة، ملهوفة للقاء الكومبيوتر، ولقاء الناس الذين لا أعرف منهم سوى بضع كلمات، وآراء قد لا تكون صادقة، إلاّ أنّني أتمم رسمهم بخيالي، وكما أشتهي! وشيئاً فشيئاً راحت ذاتي تتشظّى إلى ذوات عدة، و(صار جدّاً ما مزحتُ به.. ربّ جدّ جرّه لعبُ)، إذ يجد المرء نفسه متورطاً في أحد دروب الجنون، فقد يختفي أحد الكائنات الافتراضية، تاركاً الآخر يعيش لوعة فقد الوهم، مكتئباً وحده، وقد يقرر المرء ذاته أن يختفي، فلا يكون لاختفائه أيّة تبعات تُذكر، أو يكون لاختفائه تبعات خطيرة.

تكمن خطورة العيش في العالم الإلكترونيّ في أننا بدأنا نفقد الإحساس بالمكان، الذي لم يعد له أهميّة في حياتنا، لقد صرنا كائنات زمانيّة، وهذا ما يزيد من تهميشنا بوصفنا بشراً، فالعلاقة بالمكان أوثق من العلاقة بالزمان، لأنه الشيء المحسوس الذي نتعايش معه، في حين أنّ الزمان مجرد: الماضي تلاشى، والحاضر سيّال، والمستقبل مجهول.

يزيد تهميش المكان، بالاعتماد على الزمان، من إتاحة مساحة أوسع للكذب، ذلك ما يساهم في تغيير خريطة القيم الجماليّة في الثقافة، فقد يكتب أحدهم من الكونغو ويدّعي بأنه في حلب، وقد يكلّم شخصاً بجوّاله المدوّل من فرنسا ويقول إنه في الأردن مثلاً، وهكذا...

يمتلك المكان أهميّة في صناعة المستقبل، ويسهم تهميشه بتغييب الرؤية المرسومة لمستقبل البشريّة، لأنك إن جهلت المكان الذي أتيت منه، ستجهل أين تقف الآن، وإن جهلت المكان الذي أنت فيه، لن تعرف إلى أين تتوجه.

ليست قبعة الإخفاء سوى فكرة تهمّش المكان لصالح الزمان، ومعها تفقد البشرية ذاكرتها، ليصدر الجيل الجديد عن ذاكرة مفقودة، ذلك أنّ كلاًّ من الحديقة، والمقهى، والشاطئ، والسجن، والسينما سيتمّ قتله، بالطريقة ذاتها التي سيقتل بها الرقيب، ذلك الرقيب الذي سعت الثقافات، جلّها، تاريخيّاً، لقتله متتبّعة خطا الحريّة. لكنّ الحريّة التي تتجلّى بقتل الرقيب، أو بارتداء قبّعة الإخفاء حريّة مزيّفة!

الحريّة هي أن نكون ما نريد بحضور الرقيب لا بغيابه، وأن نتعامل مع الآخرين بأسمائنا لا بأسماء مستعارة، وأن نتجلّى لهم بذواتنا، من غير أن نرتدي قبّعة الإخفاء.

*****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة