Culture Magazine Monday  11/02/2008 G Issue 233
فضاءات
الأثنين 4 ,صفر 1429   العدد  233
 

الرحيل في الماء
قاسم حول

 

 

اتصلت السيدة ملك (أم تمامة) المقيمة في هولندا بوالدها الشاعر مرتضى الشيخ حسين المقيم في برلين، ولكن الهاتف يرن ولا جواب. مرة ومرتين وثلاث، صباحاً وفي منتصف النهار ومساء وليلاً والهاتف يرن ولا من جواب. اتصلت بصديقة لها أن تذهب وتطرق الباب عسى أن يرد عليها والدها الشاعر المرهف، فذهبت السيدة ورنت جرس الدار ولا جواب، لكنها سمعت صوت خرير المياه فاتصلت بالشرطة التي جاءت وفتحت باب شقة الشاعر ليجدوه نائماً داخل حوض الاستحمام والصنبور يدلق الماء. هكذا جاءت النومة الأخيرة للشاعر العراقي مرتضى الشيخ حسين.

إنها صورة تشبه خيال الشاعر والقاص والروائي، حيث لا يمكن أن يرتبها الواقع هكذا، لم يمت منتحراً حتى يختار شكل الرحيل.. جاء رحيله، شكلاً أشبه بمشاهد رويات العشاق الرومانسية في القرن الثامن عشر.

كنت ألتقيه كل عام في مهرجان لايبزغ السينمائي، ولم يترك فيلماً دون أن يشاهده، وعندما تلتقيه لا تشعر إطلاقاً أن العمر يعاركه، بل كان هو يعارك العمر فروحه خضراء كما يقال ويعشق الجمال ويحب المتعة والألق والضحكة. يحفظ ليس الشعر فقط، بل يحفظ مقاطع من الأعمال الأدبية العظيمة وكأنه ممثل يحفظ دوره ليؤديه على المسرح، وكان عندما يقرأ لي مقاطع من أعمال أدبية هامة فإنه يلقيها كمن يؤدي دوراً على مسرح الحياة.

وبقدر هذه الروح الخضراء المكتنزة ببهجة الحياة فإنه قليل الصداقات سوى مع عدد قليل من أبناء جيله من الشعراء. كثير المعارف قليل الصداقات، ولعل أجمل أصدقائه كانوا من الكتب والصديقات، وفي أربعينية رحيله قرأ الكاتب عباس الدليمي بعضاً من قصائده وكلها جميلة ولعل أجملها قصيدة (أصدقائي) وفيها يختار الكتب أصدقاء له، فهم إن أختلف معهم لا يزعلون منه وإن أعجب بهم لا يستثمرون إعجابه، وهم يسلونه ويتحدثون معه دون أن يخدشوا سمعه بصوت قد يكون نشازاً.

إن في داري مئات الأصدقاء

وأنا أختار منهم ما أشاء

كلما حدثني من بينهم أحد حلقت في أوج الهناء

وإذا خالفته في رأيه، لم يجابهني بحقد وجفاء

يمنح الآراء مهما عظمت، بهدوء دون فخر واعتلاء

أصدقاء خلقوا من ورق، شع فيه الحبر نورا وبهاء

يمنحون النفس أسمى نشوة، يا لهم من أصدقاء أوفياء

لا أرى فيهم فضوليا ولا، ثقلاء سذجا أو بلداء

كتب تلهمني معرفة، أكشف الظلماء فيها بالضياء

......

في الحقبة الملكية وكان ينتمي لليسار الثقافي والسياسي حرم من الوظيفة فأفتتح مع الدكتور فيصل السامر الذي تسلم بعد ثورة تموز حقيبة وزارة الإرشاد التي تعادل وزارة الثقافة، افتتحا مطعماً أسمياه مطعم الجميع، لكن هذا المطعم لا يؤمه الزبائن حيث كان رجال الأمن يقفون وقت الغداء والعشاء عند باب المطعم وينصحون الزبائن أن لا يأكلوا في هذا المطعم وينصحونهم بمطعم قريب اسمه مطعم (عمو الياس) محذرينهم قائلين إن أصحاب هذا المطعم من اليساريين ووجودكم في المطعم يضعكم في دائرة الشك!! فخسرت تجارة الأكل وتحملوا أعباء الخسارة. قرر الشاعر مرتضى الشيخ حسين الهجرة باتجاه ألمانيا وبقي فيها يعيش وحيداً في شقته يكتب الشعر ويودع القصائد في صندوق من الكرتون مع الرسائل المتبادلة مع أصدقائه من الشعراء. كان ينشر بعض قصائده الوجدانية أما شعره الذي جابه من خلاله العسف فكانت الصحف تحرج من نشره.

الأديب والسياسي جاسم المطير (أبو تمامه) قرأ بعضاً من رسائله مع الجواهري والبياتي واستطرد أبو تمامة من خلال السطور في ذكرياته مع الأديب الراحل ومع الجواهري والبياتي عندما كانت مقهى يوربا كافارنا في براغ تجمعهم وكانت طريقة المطير في قراءة الرسائل تشبه السالوفة الممتعة فهو يعقب ويتذكر ويجعلنا بطريقته الممتعة في القراءة نعيش مع تلك الأيام فنرى الفنادق والصبايا الجميلات والمزاحات الظريفة. يرويها المطير بطريقة (القصة خون) الراوية المسرحي الذي يسلب لب المستمعين في المقاهي إلى حكايات أبو زيد الهلالي وعنترة بن شداد والذي يعرف كيف يعرج على الأحداث فيخرج من النص معقباً ثم يعود إليه، لكن عصرية لغة المطير في الأداء جعلت من أربعينية الفقيد حضوراً ثقافياً متألقاً، فنحن كمن يتمتع بمشاهد مسرحية تروى من قبل ممثل واحد موهوب.

ولأول مرة يحتفى بغياب شاعر بأمسية ثقافية تخرج عن كلمات الرثاء والثناء (واذكروا حسنات موتاكم)، بل كانت الأمسية التي نظمها البيت العراقي أمسية ثقافية حقاً، وبكلمة الدكتور كاظم حبيب التي أرسلها من ألمانيا وبكفاءته المعهودة تحدث عن الفقيد وتأريخه في ألمانيا ولمح إلى مغامراته العاطفية.. كل الذين تحدثوا، عبد الرزاق الحكيم الحكيم وأم تمامة وجاسم المطير وعباس الدليمي وعلاء نفاوة والفواصل التي كان يلقيها ويقدمها الأديب ربيع البدري وضعتنا في أمسية ثقافية كان حضور الفقيد فيها روحاً تؤرخ وتحاور الواقع الذي عاشه في حياته.

تكاثرت الأحداث في الوطن العراقي وتعقدت الحياة وصار الذين لا يعلمون يتساوون مع الذين يعلمون ما زاد ذلك حزناً وأسى عند الشاعر وزاده ذلك توحداً.. يضجر أحياناً فيأتي ليزور ابنته في هولندا وكانت آخر مرة إلتقيته فيها قبل عام من رحيله وهو ظريف المحادثة فجلسنا أمسية في داري وصار يؤدي ليس شعراً من إبداعه كما هي نرسيسية الشعراء بل كان يلقي مقاطع من الأعمال الروائية والأدبية العظيمة والخالدة المعجب بها والتي بقيت في ذاكرته وهو تجاوز الثمانين.. كنت أنصت لما يقول وأرى فيه صورة الطفل الملهم، فما شعرت يوماً وأنا أجلس معه أن العمر قد عاركه لأنه كان يعارك العمر وينتصر عليه.. ترى هل اختار الشاعر مرتضى الشيخ حسين الرحيل وشكل الرحيل على خلاف ما يرسم القدر؟! تجرد من ملابسه ونام في حوض السباحة وفتح الماء الدافئ .. وبقي نائماً.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة