Culture Magazine Monday  10/11/2008 G Issue 260
فضاءات
الأثنين 12 ,ذو القعدة 1429   العدد  260
 

الموت البارد
خالد البسام

 

 

في السطر الأخير من مذكراتها تكتب (ليديا افيلوفا) التي عاشت صداقة جميلة مع الروسي النبيل (أنطوان تشيخوف) أعظم كاتب قصة في العالم، تقول: (لقد أدرك أخيراً.. انه قد أضاع حياته).

فمع ان (تشيخوف) لم يعش سوى أربعين عاما فقط، إلا انه أشبعها بكتابة حافلة وبحياة مأساوية، وبتأملات لا تنسى، وبحكمة لا توصف.

كانت عبقريته في الكتابة تكمن في انه يكتب ما يراه وما يحسه ويعبر عن ذلك بصدق وإخلاص. وكان يردد دائما على أصدقائه بأنه يستطيع ان يكتب عن أي شيء، ولكنه أيضا كان يصر على ان قصصه ليست للتعليم والمثل العليا فهو ليس واعظا ولا حكيما! غير ان الأديب الروسي الذي عاصره وهو (الكسندر كوبرين) يشرح بروعه قصصه فيقول: (عندما تقرأ أنطوان تشيخوف تحس وكأنك في يوم حزين من أيام أواخر الخريف، عندما يكون الهواء شفافا للغاية، وتبرز بحدة معالم الأشجار العارية والبيوت الضيقة والناس الرماديين. أما الآفاق الزرقاء البعيدة فتبدو خاوية. وعندما تتحد السماء الشاحبة، تنفث بردا مقبضا على الأرض المغطاة بالوحل المتجمد).

ويكمل: (وعقل الكاتب كشمس الخريف، يضيء بوضوح قاس، الطرق المكسرة، والشوارع المتعرجة، والمنازل الضيقة القذرة، التي يختنق فيها الضجر والكسل أناس صغار تافهون يملأون بيوتهم بالهرولة الفارغة الناعسة).

في الحياة كان الرجل يقاوم الابتذال والسخافة والنفاق وتفاهات الحياة بدون هوادة. كان يشعر ان روسيا وقتها تحتاج إلى أكثر من حكماء وفلاسفة وسياسيون يملؤون الدنيا صخبا في مظاهرات. كان شعوره ان بلاده تحتاج إلى من يوقظها من نومها العميق ويقول لها: أنت لست جميلة. انتم لا تعلمون. يجب ان تتغيروا. هكذا بكل صراحة وبدون مجاملة على الإطلاق. وكما القصص قاوم مرضه اللعين الذي جاءه وهو في عز شبابه، قاومه بكل شجاعة وبطولة. لقد قاومه طويلا جدا وبصبر نادر وتحمله بلا شكوى.

بل كان يكتب آخر أيامه وهو يتألم، ويعالج مرضاه الذين لا ينتهون كطبيب احترف الكتابة.

في أواخر أيام حياة الروسي النبيل (أنطوان تشيخوف) كان يغضب أحيانا من زواره الذين يسألون عن صحته: صحتي على ما يرام. لا داعي أرجوكم للسؤال! أما إذا أراد احد معرفة صحته فيسأل زوجته (ارسيني) التي تقول لأصدقائه بهمس: كانت صحته سيئة جدا صباح اليوم. لقد نزف دما!

ويروى الأديب الروسي (الكسندر كويرين) جنازة أعظم كاتب قصة في العالم (تشيخوف ) فيقول: أتذكر جنازته كأنما حلم. بطرسبرج الباردة الرمادية، والخلط الذي حدث بين البرقيات. والمجموعة الصغيرة من الناس على المحطة، وعربة نقل القواقع البحرية، وناظر المحطة وموظفوها الذين لم يسمعوا أبدا عن تشيخوف، والذين لم يروا في جثمانه سوى شحنة سكك حديدية. وبعد ذلك، وكنقيض له في موسكو، والحزن العفوي، والآلف البشر الذين بدوا كاليتامى، والوجوة الباكية. وأخيرا القبر في مقبرة (نوفوديفيتشي) وقد وضع فوقه الزهور، بجوار قبر بسيط (أرملة القوزاقي اولجا كوكا ريتنكوفا).

ويكمل: (واذكر الجناز الذي أقيم في المقبرة في اليوم التالي للدفن. كان مساء هادئا من شهر يوليو. وفوق القبر انتصبت أشجار الزيزفون العجوز التي ذهبتها الشمس، ساكنة بلا حراك. وفي أصوات الكورال النسائي الرقيق تردد حزن هادئ مستسلم وزفرات عميقة. وفي نفوس الكثيرين آنذاك جاشت حيرة مضطربة ثقيلة. وتفرق الجميع من المقبرة ببطء وفي صمت. واقتربت من والدة تشيخوف ولثمت يدها دون كلمات، فقالت بصوت مرهق ضعيف:

- انظر أية بلوى أصابتنا... انطوشا راح).

لقد رحل (أنطوان بافلوفتش تشيخوف) في مساء هادئ من شهر يوليو عام 1904م تاركا وراءه أجمل القصص والمسرحيات التي لا تزال تقرأ حتى اليوم في كل العالم، بينما لا يمل المسرحيين من تمثيل مسرحياته الخالدة.

ويقول المعاصرون لجنازته: إنها كانت باردة ورمادية وتشبه كثيرا مدينة بطرسبرج التي مات فيها، وتشبه شخصه المسكين، النبيل، الحكيم، الناكر للذات والذي لا ينسى.

albassamk@hotmail.com

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة