Culture Magazine Monday  10/11/2008 G Issue 260
أوراق
الأثنين 12 ,ذو القعدة 1429   العدد  260
 

جبروت الجسد
طارق السياط

 

 

كيافطات المتاجر، أو أشدّ، حيث تشي بهوية البضاعة، ذلك هو شأن الجسد. أجسادنا، لافتاتنا التي تكفي غيرنا مؤونة الاكتراث بفحوانا. أحالتنا وطأة الحياة إلى أجساد. أجساد تفيض بالدلالة علينا.

في باكورة يومنا، نهرع نحو أعمالنا، مذعنين للرتابة اليومية. ندلف المكان. تدلف أجسادنا، ونروي أقصوصة الترداد من جديد. يروننا. يرمقون أجسادنا. نلقي تحية الصباح. ترشدهم أذهانهم، التي مثل ألبومات للصور، على أننا هاهنا. هذا طيفنا. ويجري تدويننا في سجل الحضور لذلك اليوم، منصاعين لواجب الوظيفة. ما زلنا على قيد الحياة، بأجسادنا. وما بين افتراق الأجساد ظهيرة يوم أمس، والتقائها من جديد هذه الصبيحة، تكمن ملايين الحكايات التي اخترقت أجسادنا، واستوطنت في خبايانا، وجئنا بها على مضض، نجرجرها فوق كواهل أرواحنا. الجسد ذات الجسد، والداخل يعتمل، يميد بما دهاه. لعله يأسن، أو ربما يعبق، ويتبقى الجسد هو الجسد. هم لا يدركون، أو للدقة، لا يعبؤون. إنما نحن أجساد، وإذا حضر الجسد بطل التأمل.

في دورنا، بين ظهراني أهلينا، بمعية أصحابنا، في المحافل، بين الحشود، نحن أرقام، خانات يتحتم شغلها بأجسادنا، استيفاءً للنصاب، أو ربما تفاديا للحرج، ووأدا للمساءلة: (أين غابوا؟). ويجرى التواطؤ على هذه المهمة فحسب، وبالاتفاق الضمني. يا للأجساد الكومبارس. وفيما لو وجود الجسد، فلا تثريب بعد ذاك. تتلاشى أرتال الأسئلة ثـَمّ، تحت وطأة جبروت الجسد: كيف نحن، بأي حال أتينا، أي مشاعر أقلتنا، على أي شيء أفقنا، أي أمر أقض مضجعنا، ماذا يدور بخلدنا........ الحضور الحضور. برهنة الوجود لا غير. الفيزياء أولى من الكيمياء.

في لقاءاتنا العابرة، نفز للتحية، فنؤمر بالجلوس للراحة. تدافع مستتر، ومعركة خلاص من تحت الطاولة متدثرة برداء اللطافة. نستهلك ديباجة الخلاص، التخلص من عبء اللحظة، ولوازم الزركشة. تتهاوى علامات الاستفهام المغبرة والمهترئة يمنة ويسرة على منضدة اللا مبالاة. تتمخض خديجة، وبالكاد تهس، ثم تقضي نحبها لفورها. الأجساد ثانية، تنجز الدور بإتقان، دونما اكتراث لسبر الداخل. ثمة مسرحة للمشاعر. توجد شرعنة للخديعة.

ينبغي لنا أداء الأدوار التي حيكت لنا بأنانية. القيمون علينا، وذوو الصلة، مخرجون يناط بهم الاطمئنان على سير العمل، وانسياب السيناريو كما شيء له. الكل مخرجون، يؤدون أدوارهم في تمثيلية الحياة بإخلاص. يركنون إلى سلامة أجسادنا، ويغفلون عما بين دفتيها.

من يعبأ بأرواحنا المسكينة؟ إذا تضافر عطب الجسد وخواء الروح فلا ضير. سيكون ثمة سلوان. بيد أن العطب إذا طال الروح فحسب، وتألق الجسد، فها هنا تكمن مأساتنا، إذ سيقذف بنا في غياهب النسيان، ضحايا لأجسادنا.

في دنيا الأجساد هذه، لا بصيص للتملص من اللحاق بالركب. يتوجب علينا الدخول ضمن الفرقة. لا مجال للتقاعس قط. يأتي الجسد أولا، حتى لو ضد صالح الروح.

ثمة إجازات مرضية لوعكات الجسد، ولم يجر طباعة أنموذج لوعكات الروح إلى هذه الآونة : وعكة الملل، وعكة البعثرة على إثر سفر قصي ومترع، وعكة التضعضع جراء تجربة أسطورية. في بنود دستور العمل والعمال، توعك الأجساد، ولا توعك الأرواح. انتهى.

الناس الذين خاصتنا، من يقاسموننا معيشتنا، هم أجساد، كشأننا وإياهم. لقطات تصورهم لنا أعيننا وتصورنا لهم عيونهم. نطمئن لوجودهم في حجراتهم، وبالمثل يطمئنون. ربما حتى لا نشاهدهم، ولكن حسبنا أن نرصد بصيص النور الخافت المتسرب من أسفل أبوابهم الموصدة، أو نرمق نوافذهم المشتعلة من فناء المنزل، أو يتناهى إلى مسامعنا ضجيج أجهزتهم، فيهنأ لنا البال. هذا فحسب. ولكن ما عساه أن يعتمل وراء ذلك؟ أي أهوال تخبئها تلك الأجساد؟ لا ضير.

يفجعنا نبأ الموت، فنصعق. تجيش مشاعرنا، ومن المحتمل أن نجهش. ذلك أن الجسد قد قضى، مع مراعاة فارق التوقير، إذ قضت الروح منذ أمد بعيد جراء التنائي، والانهماك، والتشاغل. لا يضيرنا انصرام الأواصر، ولا تداعي الوصال، طالما أن من يعنينا شأنهم باقون على قيد الحياة. ولا فجيعة لموات المعاني. بل لا ندركها ونتلقى، أو نمنح، تعازيها إلا حين وفاة الجسد.

مشاعرنا حبيسة أجسادنا، ورهن انتعاشها. إنه زمن الأجساد.

- الرياض ts1428@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة