Culture Magazine Monday  09/06/2008 G Issue 251
قراءات
الأثنين 5 ,جمادى الثانية 1429   العدد  251
 

الذاتي والموضوعي في السيرة الذاتية لدى عبد الرحمن منيف «1»
محمد عبد الرزاق القشعمي

 

 

كيف عرفت عبد الرحمن منيف؟ بدأت بالاهتمام بعد الرحمن منيف منذ عام 1405هـ - 1985م، بل وبدأت أجمع رواياته، وأهتم بما يكتب عنه من كتابات، سواء في الصحف أو الدوريات، أو بعض الكتب التي يشترك في تأليفها أو يشارك فيها بمقال أو بحث.

ذهبت لمعرض الكتاب بدمشق عام 1412ه - 1992م وكان عبد الرحمن منيف يتواجد في جناح دار الفكر الجديد، حيث صدر له منها مؤخرًا كتاب (الكاتب والمنفى..

هموم وآفاق الرواية العربية) وهو عبارة عن مقالات ومحاضرات ودراسات وحوارات معه في فن الرواية..

قابلته وعرفته على نفسي..

وتكرر اللقاء..

وكان أحدها في إحدى مطاعم الربوة بدمشق بحضور بعض الناشرين فتعمقت العلاقة أكثر حيث دعاني في السنة التالية إلى منزله في حي (المزة) وكان شغوفًا بالاستماع إلى أخبار المملكة وجديدها في مجال النشر شعرًا أو رواية أو نقدًا (1).

قلت له إنني من المعجبين بما يكتب وقد جمعت عددًا لا يقل عن مئة عنوان من الدراسات والبحوث والمقالات والمقابلات وعدد من محاضراته التي لم تُجمع في كتاب.

وإنني عندما رأيت كتابك الأخير (الكاتب والمنفى) وبه بعض من تلك المواضيع خفت أن يفشل مشروعي.

فضحك وقال: هل تحب أن نتبادل المواقع؟ وفي لقاء آخر قال: أنت مثل ابن جني وأنا مثل المتنبي..

فأنت أعرف بشعري مني..

كنت أسكن في قرية بين دمشق وحمص تدعى (دير عطية) وتبعد80 كيلاً عن دمشق فكان يزورني بمعدل زيارة في كل سنة.

بعد أن أزوره في منزله ويكون بصحبته ابنه هاني أو ابنته عزة وأحيانًا الناشر الفلسطيني حمزة برقاوي صاحب دار النمير ومرة جاءت معه زوجته سعاد قوادري..

والحقي قة أنه كان جادًا في حديثه، دقيقًا في مواعيده.

عندما عرف أن عملي قد انتقل إلى مكتبة الملك فهد الوطنية، وأنني بدأت أسجل مع كبار السن برنامج (التاريخ الشفهي للمملكة) طلب مني وبإلحاح أن أهتم بالتسجيل مع ثلاثة أشخاص هم الشيخ حمد الجاسر وعبد الله الطريقي رحمهما الله وعبد الكريم الجهيمان، وأضاف إن التاريخ الحقيقي لم يُكتب بعد وهؤلاء من شهود العصر..

وقد فرح في العام التالي عندما زرته بمنزله وبرفقتي الأستاذ الجهيمان حيث أهدى له كتابيه (الأمثال، والأساطير الشعبية).

عبدالرحمن منيف روائي لا كاتبُ سيرة: أمام أعمال الروائي (عبدالرحمن منيف) تشعر أن الكتابة موقف..

وقضية..

وفكر.

الفكرة الأساسية التي تطالعنا في أعمال منيف هي اغتراب الإنسان العربي، وهذا الاغتراب الذي يبدو ميتافيزيقيًا كونيًا في حالات كثيرة هو في حقيقته اغتراب نفسي اجتماعي، نتيجة ظروف تاريخية واجتماعية محددة، وهو أحيانًا يكون اغترابًا قانونيًا، خاصة في حالات البيع، والتنازل عن الممتلكات والإرادة.

وعادة ما يصاحبه شعور الفرد بالإخفاق والتشيؤ، وفقدان الإرادة، واستقلال العالم الموضوعي وانفصاله عنه وسيطرته عليه.

إن الذات..

تعزل نفسها تدريجيًا كالخلية السرطانية، ثم تغرق في القلق والشعور بالعداء لنفسها، ولكل ما حولها (2).

إن لجوء عبد الرحمن منيف - المتخصص بالبترول وهمومه - إلى الرواية، فنًا أدبيًا يجعل منه أديبًا يعالج قضايا الذات والنفس والآخرين بأساليب روائية تخرج أعماله محلقة أكبر من ضيق الواقع، وصوره المحسوسة، التي يمكن تلمسها والإمساك بها، ويضفي على مواقف الروائي الواقعية مواقف يتمسك بها كثير من قرائه، وتخرجه من وعاء السيرة التي قد يتعامل فيها كاتبها مع واقع ضيق، وأحداث خاصة به.

ولنستمع إلى منيف نفسه يمايز بين الروائي وكاتب السيرة، فيقول: (إن حياة أي إنسان، مهما كانت تافهة، ستكون ممتعة إذا رويت بصدق)، هكذا يقول كولريدج، ومعنى ذلك، على الرغم من وضوحه، أنه لكي نحصل على المتعة لابد من توفر عنصرين أساسيين: أن تكون الطريقة التي تروى بها الحياة: طريقة فنية، وأن تكون صادقة، بحيث يجد من يستمع إلى تلك الحياة - القصة شيئًا ممتعًا، لأن الفن إذا خلا من المتعة لا يعود فنًا، يمكن أن يكون مفيدًا، كالتاريخ مثلاً، ويمكن أن يكون معرفة إضافية، كالعلوم مثلاً، ويمكن أن يكون وعظًا، لكنه في النتيجة ليس فنًا، أي أنه شيء آخر، دون انتقاص من أهمية ذلك الشيء أو ضرورته.

فإذا كان من يروي هذه الحياة هو الذي عاشها فعلاً، فإن ذلك يضفي على (الرواية) ألقًا خاصًا، إذ تكون (الرواية) أكثر دفئًا وحميمية، وتكون أكثر دقة وإحكامًا، من حيث الوقائع على الأقل، لأن من عاش تلك الحياة أقدر على تصويرها مقارنة بمن يراقبها من بعيد أو يتخيلها.

وقد قال قديمًا أحد الشعراء يصف حالة مماثلة: لا يعرف العشق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها وهكذا تكون (رواية) صاحب العلاقة، إذا توفر العنصران اللذان أشرنا إليهما، وهما: الطريقة والصدق، أقرب إلى الحقيقة، وربما أكثر نفاذًا، الأمر الذي يجعل السيرة الذاتية تكتسب أهميتها، وبعض الأحيان تفردها.

فهي تنطوي، غالبًا على مقدار من الدقة والتفاصيل والمشاعر تفوق الرواية الأخرى، لأن الذي يروي يفعل ذلك بمشاعر القلب وبأعصاب الروح، دون أن يأبه كثيرًا إلى العقل البارد، الذي يميل إلى الاختيار والتدقيق.

إن ما يهم كاتب السيرة رواية ما حصل بالفعل، بغض النظر عن روعة البناء وفخامة اللغة ورنين الكلمات.

وهذا ما يفسر التعاطف الذي تحظى به السيرة الذاتية لدى عدد غير قليل من القراء، وأيضًا عدم وقوفهم، أو التدقيق، بما يشوب هذا اللون من الكتابة من نواقص في بعض الجوانب، من حيث اللغة والمنطق والمعمار الفني.

لكن الفن، خاصة الرواية، في المحصلة الأخيرة، ليس مجرد التعبير عن الذات، وليس مجرد تقديم اعتراف، رغم أهمية هذين العنصرين.

إن مهمة الرواية بناء عالم كامل بكل ما يحفل به هذا العالم من تعدد وتناقض وصراع، ولا تكون حياة الراوي إلا مفردة من ضمن مفردات عديدة.

أما أن تكون حياة الراوي المحور الوحيد أو الدائرة المغلقة التي تطبق على هذا العالم، فلا بد أن يؤدي لاحقًا إلى حالة من الاختلاط ثم الارتباط، فإذا نجت (الرواية) الأولى من أي منها، فسوف يظهر لك فيما يليها من روايات (3).

إنه يعتبر الروائي حالة متقدمة عن كاتب السيرة، ويتميز عليه بشيئين، الطريقة الفنية، والصدق، أما كاتب السيرة فإن ما يهمه أن يروي ما حصل واقعًا، بعيدًا عن روعة البناء وفخامة اللغة ورنين الكلمات (الفنية).

إن هذه السمة (الفنية) تتوارى في كتابة السيرة تحت ستار كشف الخصوصية، والفضول الذي يدفع القارئ إلى التهام النص، شغفًا لمعرفة الأسرار والأحداث الخفية، خاصة في حياة من يعرفهم أو يسمع عنهم، وكأنها مقارنة ضمنية تدفعه للوقوف على الأسباب والظروف التي جعل ت الروائي شخصًا استثنائيًا.

لقد حدد عبد الرحمن منيف مميزات بين كاتب السيرة والروائي، محاولاً وضع فروق بينهما - وهي موجودة - ليمايز بينهما؛ فالسيرة خصوصية، منطلقة، حرة، سلسة، فيها من التفاصيل الحارة ما فيها، تتقاطع مع حياة عدد غير قليل زمنًا وحدثًا، فيها كثير من العظة والاعتبار، شهادة صاحبها على واقعه أو على العصر.

وشرط الشهادة تأثيرها، وأن تكون صادقة ودقيقة، وبمقدار الصدق تنشأ علاقة من الثقة بين طرفي المعادلة، الراوي والمتلقي، ويتولد حوار داخلي يمنح الأشياء أحجامها وملامحها وألوانها ونكهتها الحقيقية، بحيث يتاح لنا تصور الحياة التي كانت، وما وقع خلالها من أحداث.

أما الرواية فيميزها بالفنية أولاً وآخرًا، وبالدقة، وبناء عالم كامل بكل ما يحفل به هذا العالم من تعدد وتناقض وصراع، والراوي ليس هو المحور الوحيد الذي تدور حوله الأحداث والشخصيات، والرواية بنت عصرها من حيث الاستفادة من التطورات التي حصلت في هذا المجال، فيجب أن تكون جديدة، وتشكل إضافة في الوقت نفسه، والروائي يشبه القاضي في حياده وخياله؛ إلا أنه ليس مطلقًا في ذلك كالقاضي.

إن التقاطع في الزمان والحدث يجعل تبادل المواقع ممكنًا بين القارئ والراوي، فيشعر القارئ في لحظات معينة، بأنه بطل الأحداث التي تمر تحت ناظريه، وينقل الراوي إلى ذاتي يتحدث عن نفسه.

إن عبد الرحمن منيف بهذا التنظير الروائي العَمْدي يغدو روائيًا، لا كاتب سيرة، فهو يدرك الفروق بين الروائي وكاتب السيرة، ويبدو أنه يفضل الرواية على كتابة السيرة؛ لأنها تعطيه مجالاً واسعًا من الحرية والسيطرة على الأحداث، والانعتاق من قيد المواقع المقولبة.

وتجعله يذهب بعيدًا في ثنايا المجتمع، ويعرض فيها بجمال وإتقان شرائح وحالات تطال الآلاف إن لم يكن الملايين وليقول من خلالها بهمس: (إن وضعًا مثل هذا ليس طبيعيًا، ويجب أن لا يدوم) (4).

ما الذاتي؟ ما الموضوعي؟ تعني الذاتية عند عبد الرحمن منيف انعكاسًا لذات الكاتب في كتابته أو نفيها، والذات عنده انعكاس للآخرين (5)، في رده على سؤال: كيف يتعايش الذاتي والموضوعي؟ وإلى أي حد يمكن للمثقف أن يحجب وجهه الذاتي؟ كي يكون حاملاً لوجوه الآخرين وتجاربهم وإحباطاتهم وآمالهم؟ كيف يمكن صياغة تجربة ذاتية تنتج قوةً موضوعيًا؟ قال منيف: (أما بالنسبة لصلة الذاتي والموضوعي فهي قضية تبدو لي شديدة التعقيد والتداخل، أي لا يمكن الفصل فيها بشكل حاسم أو بنقاط محددة، فهي في حالة تواصل وتشابك كبيرين.

ومن هنا نلاحظ أنه وفي إطار الصراع الراهن والمرحلة التي نعيشها الآن...

يوجد تداخل كبير بين الموضوعي والذاتي، ومهما حاول الكاتب أن يعكس ذاته في الكتابة أو ينفيها، فالذات نفسها انعكاس للآخرين، وهي مرآة تتلقى كثيرًا من الذبذبات والوجوه وردود الفعل من العالم المحيط، وبالتالي أصبح هناك نوع من التداخل والتجانس تقريبًا في حالات كثيرة.

وما من شك لو لم تتح هذه الفرصة بالنسبة لي لكي أستمر بالتواصل مع العالم وأحاول المساهمة، باعتبار أنني مررت بهذه الحياة، من خلال هذه الأداة (الرواية)...

فلربما أخذ الأمر شكلاً سلبيًا، ومن هنا أفهم الكتابة على أنها حاجة تساهم في التعويض عما كان يطمح له الإنسان عندما كان يعمل في السياسة.

أما عندما سُدّت أبواب السياسة أو عندما هُجرَت بمفهومها السائد فأصبحت هناك ضرورة لإيجاد وسيلة تعبير تبرر وجود الإنسان، وتجعله على قناعة بأنه مساهم ضمن مجموع يحاول ويأمل في التغيير ويتطلع إلى المستقبل، وهي بهذا المعنى عملية تعويض (6).

إن تداخل الموضوعي والذاتي عند منيف تداخل فرضته طبيعة المرحلة التي مر بها العالم العربي من صراع خارجي وداخلي، دعت الكاتب إلى إذابة ذاتيته في ذات الآخرين، وانصهار همومه في هموم الآخرين، وهموم مجتمعه، ويلخص منيف هموم مجتمعه بأنها هموم المواطن العربي وهي: الاضطهاد، وغياب الديمقراطية، والفقر، والنزوح من الريف إلى المدن، وتغييب المواطن كإنسان..

وباختصار أشد: القمع (7).

إذن الذاتي: همّ النفس، والموضوعي: هموم الآخرين - عند عبدالرحمن منيف - فَهَمُّ النفس يذوب في هموم الآخرين، بل هو يعبر عن هموم الآخرين، ويعتبر نفسه مسؤولاً عن هموم الآخرين والقضاء عليها، وإعادة الاعتبار إلى الآخر.

كما أن عبد الرحمن منيف يرى أن المثقف يجب أن يكون سياسيًا، فدور المثقف ليس بديلاً عن العمل السياسي، وإنما يفترض أن يكون جزءًا منه (8).

المراجع

- عبد الرحمن منيف والعراق (سيرة وذكريات).

- ط1.

- بيروت، والدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005م، ص 29.

(1) القشعمي، محمد بن عبد الرزاق، كيف عرفت عبد الرحمن منيف؟.

- جريدة الجزيرة، (الملحق: المجلة الثقافية)، ع52، 8 صفر 1425هـ - 29 مارس 2004م، ص14 - 15

(2) عبد الحميد، شاكر - عالم عبد الرحمن منيف الروائي، مجلة إبداع، السنة الثالثة، ع1 (عدد خاص)، ربيع الآخر 1405هـ - يناير 1985م، ص152 - ، ص152.

(3) منيف، عبد الرحمن.

رحلة ضوء.

- ط1.

- بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2001م، ص49 - 51.

(4) منيف، عبد الرحمن.

الكاتب والمنفى: هموم وآفاق الرواية العربية؛ تحرير: محمد دكروب.

- ط1.

- بيروت: دار الفكر الجديد، 1992م، ص 42.

(5) السابق، ص 266.

(6) السابق، ص 265 - 266.

(7) السابق، ص 288.

(8) ماهر جرار.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5820»ثم أرسلها إلى الكود 82244

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة