Culture Magazine Monday  09/06/2008 G Issue 251
فضاءات
الأثنين 5 ,جمادى الثانية 1429   العدد  251
 
ثقافة الوشاية
أين تبدأ اللعبة وأين تنتهي؟
منذر بدر حلّوم

 

 

-1-

البحث عن الدافع

الوشاية لعبة، الوشاية آلية تحكّم وحكم، الوشاية هدف، الوشاية عمل رسمي، الوشاية فن، الوشاية علم، الوشاية إبداع.. يمكن توصيف فعل الوشاية بكثير من المفردات التي تدلّ بمعنى ما على وظيفة داخلية يقوم عليها الفعل أو وظيفة خارجية تقوم عليه. ولكن، وفي جميع الأحوال تتم الوشاية في قبو الشخصية انسجاما مع الأقبية التي تخدمها. درجة ما من درجات الوشاية تحضر دائما بحضور البعد الاجتماعي. فالوشاية تشكّل، بمعنى ما، مصدرا للسلطة واللذة معا.

نحن ننقل خبرا ما عن أحد ما إلى آخر، قريب أو بعيد، ومع ذلك فهذا الفعل اليومي لا يسمّى وشاية. ذلك أن الأخيرة تقوم على الهدف، بل على وعي الهدف، وتقوم دائما على مصلحة تُكسب عملية النقل شحنة سلبية، وبالتالي قيمة أخلاقية سلبية من منظور التربية الاجتماعية على الأمانة.

ولكن، أليس الخضوع لقانون وضعي ما والانضباط أمامه، بما هو فعل إيجابي في المجتمعات المضبوطة، ينطوي على قبول بالوشاية ونزع لشحنتها السلبية؟ فمصدر القيمة هنا هو الدولة، هو المصلحة المتفق عليها والمسكوكة في القانون.

المصلحة المتواضع عليها ترفع الدولة فوق الأخلاق، فتصبح الأخلاق منتجا ثانويا تابعا للقانون، أو بصياغة أخرى تتولد الأخلاق عن القانون وليس فقط عن العرف والعادة والتربية الأسرية والاجتماعية. بل تكون الغلبة للقانون في حال تضاده مع الحاضنة التقليدية المولّدة للأخلاق. أم أنّ الأمر وما فيه مسألة تراتبية ضمن مقولة الأخلاق نفسها، تُفاضِلُ بين الأفعال، فإذا ببعضها أخلاقي وبعضها الآخر غير أخلاقي، أو ببعضها أقلّ أو أكثر أخلاقية من البعض الآخر؟

أم أنّ فعل الوشاية يأتي من رغبتنا في إيقاع الأذيّة بمن نشي بهم، رغبة قد تتجمل بالانضباط القانوني، حينا، وبالحرص على حق مؤسسة ما أو جهة اعتبارية أو شخصية ما، حينا آخر؟ غالبا ما يكون من الصعب رسم حدود فاصلة بين الدوافع الباعثة على الفعل الواحد أو السلوك الواحد. فهل نكون، إذن، أمام تربية على الوشاية تحضر تلقائيا بحضور التربية على الانضباط أمام القانون والنظام (الراعي لهذا القانون) وخدمة فكرة الدولة، تربية تجعل من الوشاية فعلاً معادلا لخدمة الحقيقة. فيصبح الوشاة والحال كذلك عبّادا للحقيقة طريقهم إلى الجنّة معبّد بالنوايا الطيبة. ذلك أنّهم يخدمون القانون أو المصالح العليا للدولة أو للجهة التي عاهدوها الولاء، فإذا بولائهم مسألة أخلاقية وفي النكوص عنه لا أخلاق؟

لكن، والحال كذلك يصبح من الطبيعي، بل من الواجب، أن تقام النصب التذكارية للمخبرين، الذين قد يكونوا أوصلوا بعضا من أهلهم وأقربائهم وأصدقائهم إلى الهلاك. فما الذي يجعل ناقل قول يطاول الحكم أو الحاكم أقل رفعة وسموا من ناقل قول أو فعل يطاول القانون، خاصة في البلدان التي يصعب الوقوع فيها على حد فاصل بين الحاكم والحكم والقانون والوطن؟ أم أن مسألة الوشاية كلّها لا تقوم على نقل القول أو توصيف الفعل ولا على النوايا التي يصعب التكهّن بها، إنّما تقوم على الأمانة في النقل، أي بمعنى آخر ترتبط الوشاية بالتلفيق. فيصبح، بالتالي، كل نقل أمين لقولٍ ما أو توصيف دقيق لفعلٍ وإيصاله إلى الجهة المعنية به مباشرة أو مواربة، يصبح فعلا محمودا، بصرف النظر عن النتائج التي قد تترتب على فعل النقل بحد ذاته، والتي قد تنتهي إلى الظلم والبطش ليس بمصدر القول فقط بل بآله وذويه وصحبه أيضا. وهكذا، يصبح من غير المسوَّغ أخلاقيا، ناهيك بتسويغه قانونيا، أن ندين الوشاة الذين بفضل من نقلهم لمعلومات دقيقة صفّيت وتصفّى أحزاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مقاومة للطغيان في مكان وللاحتلال في مكان آخر. وأمّا إذا قبلنا بذلك فيلتغي الفارق بين ظالم ومظلوم، بين محتل ومقاوم، بين سجّان وسجين. وهذا ما لا يمكن قبوله!

فإذن، هل تنحصر المسألة في المفاضلة بين الشرور بحثا عن شر أصغر، فيكون خيراً أن نختار الأصغر، وشرّاً أن نختار الأكبر، ويكون كل قول وفعل يساند الخيار الأول محمودا، وكل فعل أو قول يمهّد للخيار الثاني منبوذا؟

وبعد، أجد أن الأسئلة المطروحة أعلاه تفيد في تأكيد أنّ كل قول يساند الاحتلال والطغيان والاستبداد شائن مهما تجمّل بالنوايا، دون أن يعني ذلك أن العكس صحيح بالضرورة، فكثيرا ما نقع على ظلم في مقاومة الظلم وقهر في مقاومة القهر!!

- اللاذقية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة