Culture Magazine Monday  07/07/2008 G Issue 254
عدد خاص
الأثنين 4 ,رجب 1429   العدد  254
 

فيما لم أستطع إلاّ.. (شكراً مصطفى محمود)
فيصل أكرم

 

 

يقول الناقد الراحل جلال العشري، على الغلاف الخلفيّ لكتابه الصادر عام 1989 بعنوان (مصطفى محمود شاهد على عصره):

إن أية محاولة لمعرفة مصطفى محمود.. إنما هي في حقيقتها محاولة لمعرفة الله والإنسان والعالم، وعلاقة كلّ.. بالاثنين الآخرين!

ويقول أيضاً، في متن الكتاب:

(الواقع أن مصطفى محمود، بتركيزه على خاصية الاستمرار الإنساني أو التواصل الحضاري، إنما يتجاوز تلك الصلة الضيقة التي تربطه بمجتمع واحد. وباعتقاده في بقاء الإنسان في التاريخ، إنما يتجاوز معنى الزمن، ويقهر كابوس الموت، ليغازل أحلام الخلود..)

قراءتي لكتاب جلال العشري، سنة صدوره، جاءت بعد عشر سنين من قراءتي لكتاب مصطفى محمود (لغز الحياة) وقد قلتُ - في مقالي المنشور هنا بتاريخ 2-6-2008 بعنوان (ذاكرة اسمها لغز الحياة.. ذاكرة اسمها مصطفى محمود) كلّ ما أستطيع قوله عن الظروف التي اشتريت فيها أوّل كتابٍ بغرض القراءة الحرة، ولكن فاتني أن أتساءل، في ذلك المقال: ماذا لو كان أوّل كتاب اشتريته ليس لغز الحياة؟

ماذا لو كان كتاباً مملاً وسطحياً، أو ثقيلاً ومتقعراً، أو غير مهم بالنسبة لي كإنسان حيّ؟؟

جوابي إذاً، سيكون الآن: بلا شك كنتُ سأفقد اهتمامي بالقراءة، وبالتالي ما كنتُ أقدمتُ على شيء من التجريب في الكتابة شعراً ونثراً..

مصطفى محمود إذاً، بلا أدنى شكّ، كان مدخلي الصحيح إلى كل الطرقات الممهدة والوعرة- التي سلكتها منذ نعومة أظفاري..

يبقى أنّ أهمّ وأجمل شيء في مقالي السابق، أنه كان (النواة) التي أثمرت هذا الملف، الذي اشتغلتُ على المساهمة في إعداده لمدة أسبوعين كاملين فقط لا غير!

فالموافقة السريعة التي أبداها العزيز الدكتور إبراهيم التركي، مدير التحرير - استجابةً لمناشدتي في ختام المقال بتخصيص ملف عن مصطفى محمود - كانت بالنسبة لي فرصة لأقول بشكل أوضح (شكراً مصطفى محمود).. مع أن إعداد الملفات الثقافية لم يكن يوماً مهنتي، وبإذن الله لن يكون بعد هذا الاستثناء..

وقد كانت أياماً استثنائية فعلاً عشتها وأنا ألاحق الأحبة الكتّاب (على غير عادتي) وفوجئتُ بأن اسم (مصطفى محمود) كان يُحدث (صدمة) لكل من أخاطبه..

البعض كان يُصدم إيجابياً، ويستقبل الدعوة بكثير من الفرحة وكأنه كان يحلم بأيّ نوع من أنواع التكريم لهذا الرجل.. بينما البعض الآخر كانت صدمته تنم عن أشياء أخرى.. أشياء لا تدل إلاّ على المستوى الاستثنائيّ الذي حققه مصطفى محمود، حتى صار له من الحسّاد والحاقدين (الكبار) من يُصدم بمشروعٍ كهذا..

لن أذكر أسماء الذين فرحوا وابتهجوا، وإن كان أكثرهم لم يشارك بالكتابة ولكنه بارك المبادرة وتمنى لها التوفيق.. كما لن أذكر الذين غضبوا وأعلنوا عن استيائهم، وإن كان بعضهم أرسل مقالته فعلاً ولكن لأنها كانت تهاجم من يستحقّ التكريم، اعتذرتُ عن عدم ضمها إلى الملف..

غير أنني لا أجد ضيراً في ذكر أسماء قليلة فقط، ليس لكشف مواقف أصحابها فمواقفهم معروفة ربما- ولكن لطرافة ردود أفعالهم التي فوجئتُ بها حدّ الاستغراب:

الدكتور عبدالوهاب المسيري، كان جوابه: (أنا تعبان بنفسي)! **

الشاعر فاروق شوشة، رد مندهشاً: (وهل مات مصطفى محمود حتى تعملوا له ملفاً تكريمياً)؟! ثم أبدى تقديره لهذا العمل، واعتذر بلطف!

الصحافي عبدالله كمال، رئيس تحرير مجلة (روز اليوسف) التي كان يكتب فيها الدكتور مصطفى محمود على مدى خمسين عاماً، قال بحيرةٍ وارتباك: (ولكننا غيرنا موقفنا من مصطفى محمود، وصرنا ننتقده)!

أمّا فضيلة العالم الدكتور زغلول النجار، فقد خاطبته ثلاث مرات.. وفي كلّ مرة كان يعدني بأن كلمته ستصل إليّ خلال يومين ولا يفي بوعده!

وحين وعدتُ مفكرنا الإسلامي الكبير بأنني سأكتبُ عن هذه المواعيد -غير الموفى بها- جاءتني مقالته التي أشكره عليها جداً، وها أنا أفي بوعدي له وأذكر ما حدث!

وسأذكر أيضاً ما حدث في الأسبوع الأول من البدء في إعداد هذا الملف، حتى يعذرني أصحاب الشأن، ولا يساء الظنّ بي.. فقد أرسلتُ رسائل عديدة -عبر البريد الإلكتروني- لمعظم أصدقائي من الكتّاب، الذين اعتقدتُ أنهم على صلة بإنجازات الدكتور مصطفى محمود.. وطلبتُ منهم المشاركة بكلمات (شهادات) لتكون ضمن مواد الملف.. غير أن الذي حدث، بمجرد انتهائي من إرسال آخر رسالة، أن تعطل الموقع المستضيف للبريد الإلكتروني الخاص بي.. واستمر العطل لمدة ستة أيام، ولا أدري حتى اللحظة من منهم استجاب وأرسل مقالة، ومن منهم لم يستجب.

حاولتُ أن أرسل رسائل استفسار، بعد أن عاد البريد الإلكتروني إلى العمل.. ولكني صُدمتُ بأن جميع العناوين المحفوظة في بريدي لم يعد لها وجود.

إنني أعلن عن أسفي الشديد، وأعتذر عن هذا الخطأ الذي أحدثته التقنية الحديثة، فكنتُ أنا أكثر المتضررين منه.. فلقد خذلني وضيّق عليّ المساحة التي حلمتُ بأن أملأها وفاءً ومحبةً لمصطفى محمود.

أمّا ما تبقى لي من وسيلة اتصال (وهي المكالمات الهاتفية المباشرة) فقد نجم عنها هذا التنويع.. في كتابات أصحابها من مختلف الأجيال والطبقات والاتجاهات، هي بمثابة نماذج محدودة جداً تمثل بعض شرائح وأطياف المجتمع الثقافي العربي الذي أحبّ مصطفى محمود كما أحبه.

هي نماذج لأناس أوفياء لهذا الإنسان الكبير، الذي وهب حياته كلها خدمة للعلوم الإنسانية، ولتطوير العقل البشريّ والثقافة الكونية والإبداع الفكريّ.

جئنا معاً، لنقول بعض الذي نستطيع قوله تجاه هذا الرجل، رغم (متاعبنا من أنفسنا).. جئنا نتكلم عنه وهو لا يزال على قيد الحياة (وندعو له بطول العمر، مع الشفاء من كلّ اعتلال).. وجئنا كذلك لأننا لا نغيّر مواقفنا تجاه من التزم موقف العطاء المستمر عن علمٍ وإيمان، ولأننا -أيضاً- أوفياء بوعودنا لكلّ صاحب فضل كبير.

***

* بوحٌ لم أستطع إلاّه

هما أسبوعان فقط، أو ثلاثة أسابيع إلاّ قليلاً.. عشتها في تأمّل تام لحياة مصطفى محمود، أتابع فيها أكثر من خمسين كاتباً عربياً - وكاتبة (من مستويات متفاوتة) أعلنوا عن الشروع في صياغة مقالاتهم لهذا الملف عن مصطفى محمود، وكنتُ أحبسُ أنفاسي كلما أخبرني أحدهم -أو إحداهن- أنه سيرسل المشاركة الآن (بالفاكس أو الإيميل) ترقباً لمعرفة ماهية هذه المشاركة.. وهل جاءت تكريماً لمصطفى محمود، فعلاً، أم لفتح نقاشاتٍ لا تنتهي؟

وكان أسفي بقدر غبطتي، فنصف الكتابات التي تتجاوز الخمسين كان صدماتٍ متوالية بالنسبة لي، بينما النصف الآخر هو ما يتوزع على صفحات (الجزيرة الثقافية) الآن.

غريبٌ أمر هذا المصطفى محمود.. كلّ شيء في حياته ثنائيات (العلم والإيمان، الحياة والموت، الشكّ واليقين.. الخ) وحتى في مواقف الناس تجاهه، فينقسمون -بالتساوي- إلى فريقين (فريق يشكر وآخر يستنكر، وفريق يمجّد وآخر ينتقد، وفريق يحبّ وآخر يحقد.. الخ)!

وكيف لي ألاّ أكون منحازاً إلى الفريق الشاكر الممجد المحبّ لمصطفى محمود، منذ تكويني الأول، وحتى اللحظة التي تضاعفت فيها مشاعري تجاهه.. ففي اتصالي الهاتفيّ بعائلته المصغرة جداً، كنتُ أشعر أن الدنيا أضيقُ من سمّ الخياط، وأنا أستمع لصوت السيدة العظيمة (أم أمل) زوجة مصطفى محمود الأولى (وطليقته منذ زمن) وهي تقول بلهجتها المصرية الأصيلة: (مصطفى بيحب كل الناس، طول عمره بيشتغل عشان الناس، بس في ناس بتكتب في الجرايد بتهاجمه قوي).. ثم تسألني المرأة الطيبة: أنت صاحبه؟ طبعاً قلتُ لها: يا ليت، ولكني أحد محبيه وتلاميذه.. فقالت (صوتك مش كبير، أنت من عمر ابني أدهم 40 سنة، صح؟).. هنا تعجبتُ فعلاً من هذه الفراسة، وتذكرتُ حديث الدكتور مصطفى محمود في أحد كتبه عن تقارب الكائنات والأشياء.. وأذكر أنه لفت إلى أن كلّ إنسان إذا كان قريباً -ولو وجدانياً- من إنسان آخر، فإنه سيتأثر ببعض مواهبه!

وموهبة الفراسة عند مصطفى محمود كان تأثيرها يصل إلى أبعد مدى، فكيف بأم ابنته وابنه الوحيدين؟!

ثم أتاني صوت ابنتها أمل، البنت البكر لمصطفى محمود، لتقول ببراءة الابنة البارة بأبيها، وبعد أن عرفت بأنّ صحيفة الجزيرة -من السعودية- ستخصص ملفاً عن مصطفى محمود: (والله لو والدي قادر يتكلم كان شكر بنفسه كل إنسان سيقول عنه كلمة طيبة.. والدي تعب من الهجوم عليه ويحتاج لكلمة طيبة)..

أفبعد هذا لا أقول: والله لو أستطيع أن أجمع كلّ الكلمات الطيبة لأقولها في مصطفى محمود.. وعن مصطفى محمود.. لما ترددتُ أبداً؟

اتصالي بمنزل عائلة الدكتور مصطفى محمود لم يكن من أجل الحصول على صور خاصة أو قصاصات، بل كان بدافع الرغبة في معرفة الحقيقة: هل يعاني هذا الرجل الكبير من متاعب نفسية، حقاً، بعد كل هذا المشوار والعطاء؟

وحين عرفتُ الجواب الحقيقيّ عن سؤالي، أصبحتُ أنا من يعاني نفسياً لأجله..

حفظه الله من كلّ مكروه، وشكراً له بعدد كلّ ذرة نموّ أحدثها في عقلي وإحساسي.

*** فجعنا برحيل الدكتور المسيري أثناء إخراج هذا العدد، نسأل الله أن يرحمه ويسكنه فسيح جنانه.

* شاعر سعودي - الرياض ffnff69@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة