Culture Magazine Monday  07/01/2008 G Issue 228
فضاءات
الأثنين 29 ,ذو الحجة 1428   العدد  228
 
أين نحن من الحقيقة؟!
أمل زاهد

 

 

تشهد المسلسلات التاريخية إقبالاً منقطع النظير، فهناك ولع شديد برؤية أعمال تعبق بأنفاس التاريخ سواء كان هذا التاريخ قريباً أم بعيداً. وهذا الولع بمشاهدة التاريخ مؤنسنا يعبر عن رغبة دفينة في وجدان الإنسان العربي تدفعه لمقاربة نظرة مختلفة أو رؤية مغايرة عن التي حقن بها وعيه ردحاً من الزمن، تطلعه على جانب آخر من الصورة لم يتمكن من رؤيته من قبل.. جانب تم التعتيم عليه أو حذفه أو تزييفه أو تضخيمه بصور مبالغ فيها، أو بقبب قداسة تنصب فوق الشخصيات السياسية والتاريخية فتواري بشرية تلك الشخصيات ومكامن ضعفها. ولذلك يروق للمتلقي أن يرى تلك الشخصيات التي أحيطت طويلاً بهالات القداسة وصولجان السلطة وقد نزلت من عليائها وصارت أنيسة مجالسه ورفيقته في غرفة معيشته.

وقد استغربت الكاتبة إيمان القويفلي على صفحات جريدة الوطن من قابلية المتلقي للتنقل من رؤية تاريخية إلى رؤية مغايرة لها تماماً دون الشعور بالتشوش، وذلك إبان عرض مسلسل الملك فاروق. وفي تقديري أن هذا يعود إلى أن كفة القوة هي الراجحة دوماً، فالناس تتبنى رأي من له الغلبة دون رغبة صادقة في التمعن والتحقق من الحقيقة. وكما يميل الناس لتقديس الرموز السياسية والثقافية وتنزيهها عن العيوب والنقائص عندما تكون على رأس الهرم، فهم يميلون أيضاً للحديث عن المثالب وعن الضعف البشري، وينحون للشماتة والتشفي عندما يهبط صاعد القمة إلى سفحها. وغالباً ما يتم تزييف الوعي الجمعي بوسائل حرفية وشديدة المهارة، وما أن تأتي أمة إلا وتلعن الأمة التي سبقتها وتمعن في الحديث عن مثالبها، ثم يدور التاريخ دورته ليتنحى المنتصر السابق، فيسمع المتلقي حديثاً جديداً مغايراً لم يطرق أذنيه من قبل، ثم لا يلبث أن يستسلم تماماً للرؤية الجديدة ولتفاصيلها التي كثيراً ما تختلف أساساً وجوهراً عن الرؤية السابقة. وقد كثر اللغط والكلام حول مسلسل الملك فاروق أثناء وبعد عرضه، فمن قائل أنه كشف الحقيقة وأجلى ضوءها، إلى قائل أنه غمطها وخلط الحقائق وزيف التاريخ. ولست هنا في مقام الحكم على المسلسل أو مساءلة مصداقية ما عرضه.. وهل كان كاشفاً للحقيقة أم غامطاً لها؟ ولكني حاولت فيما سبق مقاربة سيكولوجية المتلقي وأسباب ولعه بمشاهدة التاريخ مجسداً في أعمال أدبية أو فنية وتقبله لتغيير الرؤى.

وغني عن الذكر أن للحقيقة أوجهاً مختلفة وهي في شكلها الخارجي مطاطية تتمدد حسب رؤى وقناعات من يعرضها، وغالباً لا يستطيع المؤلف أو الموثق التملص من فخ الأيدولوجيا أو من شرك التحيز المسبق!! ويعتمد تصديق الناس للحقيقة على براعة عارضها في طرح رؤيته ومهارته في الحجة والإقناع خاصة عندما يكون المكون المعرفي للمتلقي هشاً وضعيف البنيان! وليس هناك من يستطيع أن يزعم أنه بريء تماماً من التحيز المسبق أو الهوى، وقد كان دوماً للأهواء البشرية والصراعات السياسية دور كبير في تسطير التاريخ، ولم يكن توثيق التاريخ الإسلامي نفسه يوماً بريئاً من تأثير الخلافات السياسية والمذهبية عليه. كما أن المؤرخ أو كاتب النص التاريخي لا يستطيع التملص من قيدين يحدان من حريته، ومن قدرته على رواية الأحداث بموضوعية.. الأول قيده الذاتي المبني على خلفيته الثقافية ومكونه المعرفي وأطره الحضارية والاجتماعية وذاكرته الشخصية، وأما الثاني فهو قيد الذاكرة الجمعية بحمولاتها وشحناتها العاطفية.

ويعتمد تصديق الناس لحيثيات الحقيقة المعروضة أمامهم على براعة الحجة وقوة الإقناع التي يستخدمها كاتب العمل كما أسلفت، وتلعب مهارته في الإمساك ببراعة بخيوط السرد، وخلط التاريخ بأحداث ساخنة ودراما مشوقة دور رئيس في الاستحواذ على إعجاب المتلقي ومتابعته للعمل، ولا نغفل أيضاً الدور المهم للإخراج المتقن والعمل المشغول جيداً تصويراً وديكوراً وخلافه.

ويبعد التعليم العربي التلقيني والقائم على إعادة تكرير نسخ متشابهة من البشر المتلقي أيضاً عن تكوين نظرة نقدية قادرة على تمحيص الأمور ليستطيع الانتقاء وتخير الأقرب للحقيقة منها، فالمتلقي دون شك يحتاج إلى الوعي الشمولي والثقافة الواسعة ليتمكن من الحكم الموضوعي على ما يعرض عليه، وليتمكن التوثق من مصداقيته، وحرصاً على تنقية تاريخنا من التزييف يتوجب علينا اليوم قراءته قراءة نقدية، وتحديث دراسته وفقاً للمعطيات التي يوفرها لنا عصرنا، فبما وصلت له البشرية من تراكم معرفي، وثورة معلومات، ووسائل اتصالات، ومن تطور معرفي، ومنهجيات جديدة في البحث العلمي، يمكننا الوصول إلى رؤى تقارب الحقيقة ولا تشط كثيراً عنها!

واليوم صار الباحث في شؤون التاريخ مطالباً بدراسة العلوم الإنسانية بفروعها المتعددة، فمن المستحيل أن يفهم أنماط التحولات التاريخية دون التوغل في سيكولجية الإنسان، وعلم الاجتماع، والأنثروبولجي، والذهنيات والألسنية والاقتصاد السياسي وغيرها من العلوم الإنسانية حتى يضبط فرضياته والأحكام المستخلصة منها. ومن أهم المدارس في دراسة التاريخ هي مدرسة الحوليات التي لا تكتفي بالوثيقة التاريخية بل تعمد إلى مساءلتها وغربلتها لتعزز فرضية أو لتنكر أخرى. وتطرح هذه المدرسة آليات ومنهجيات تلاحق المعطيات وتستقصيها وتحاول تفسيرها. ومن أهم الآليات المستخدمة اليوم آلية البحث الكمي الذي يعتمد على الإحصاء والجداول الاستبيانية التي تتعرض - على سبيل المثال - للكوارث والأوبئة والقحط والجفاف في زمن ما، فتتحول الحصيلة الرقمية إلى دلالات تفيد في فحص القضايا ومساءلة الأحداث وحل الإشكاليات.

قراءة تاريخنا قراءة نقدية مهم جداً في وقتنا الحالي أكثر من أي وقت مضى، لنصل إلى فهم أعمق ورؤية أشمل تحدد لنا أسباب تخلفنا ومكامن ضعفنا علنا نستطيع أن نخرج من عنق الزجاجة !!

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7446» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- المدينة المنورة Amal_zahid@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة