Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

روح الاستقلال والحسّ النَّقاد
دومنيك دوفيلبان*

 

 

يُشكل هذا الحفل لحظة مهمة عندي. إنه مناسبة لتكريم رجل وإنساني بالمعنى الفكري وكاتب وصحافي لم يتأخر عن الإسهام باقتناع وحماسة في نقاشات زماننا. إنه لبناني عظيم وإنسان عظيم ثقافياً.

عزيزي غسان تويني، ستسمح لي أن أنقلَ عنكَ فوراً، لأنك شهادة في الالتزام بخدمة الصالح العام وفي ضرورة خدمة الوطن بلا هوادة. لقد خاطبتَ صديقك الصحافي اللبناني الفرنسي العظيم سمير قصير، الذي اغتيل في الثاني من حزيران - يونيو قائلاً: (لكي نفهم حياةَ البلد بشكل أفضل بعقلنا وروحنا، ينبغي أن نحبه أولاً، برقّةٍ وعنفٍ في آن معاً). تنعكس صورتُك في هذه الكلمات، صورة الإنسان صاحب القلب الذي انخرط دائماً بحمِيَّة في خدمة الآخرين مهما كان الثمن ومهما كانت التَّبعات.

نعرف جميعاً هنا المعاركَ التي قُدتَها والقضايا التي ساندْتَها والرجال والنساء اللواتي واللذين وقفت إلى جانبهم باسم العدالة، نحن نعرف كلّنا هنا بأية حيوية متشوّقة كافحتَ كل يوم خدمةً لفكرة الحوار والحرية.

بصفتك الصحافية لم تتوقف عن الدفاع عن هذه القيم، فوالدُك أرشدك إلى الطريق وأسس صحيفة (الأحرار) وبعدها (النهار)، التي سرعان ما غدتْ مرجعاً في العالم العربي كله، وما ترددَّتْ أبداً في تناول موضوعات جديدة، نافخة في الصحافة اللبنانية ريحَ الحرية والمعاصرة، وكان أول ما ورثتَ عن أبيك النزوع إلى الكتابة وإلى الصحافة، وحملتَ المشعل بعد وفاته العام 1948 لتصبح رئيس تحرير النهار. كما أنه نقلَ إليك المزايا التي تصنع صحافياً مهماً: (روح الاستقلال وطول اللسان والحسّ النَّقاد). فصنعت من هذه المزايا قوّةً، وتَعَهَّدْتَها بالرعاية خدمةً لموهبة فسيحة، لأنك كنت مقتنعاً بأن الصحافة ليست مهنة كغيرها من المهن. إنها مهمَّةٌ حقيقية في خدمة الوقائع الحقيقية وحرية الفكر. لقد سهرتَ دائماً على فتح صفحات جريدتك أمام التَّوجهات جميعاً والآراء كلها، كما فعلتْ الصحيفة الناطقة بالفرنسية (لوريان لوجور) التي أتوجه بالتحية إلى مديرها الموجود بيننا هذا المساء. لقد فضَّلتما دائماً التعددية على الدفاع عن حزبٍ واحد ورأي وحيد.

عادتْ عليك هذه المعركة اليومية بأعداء كُثُر وساقتكَ إلى السجن. غير أن شجاعتك ونزعتك الإنسانية تغلَّبتا باستمرار على الخوف والحقد والتهديد. أما قلتَ أنتَ نفسك: (ينبغي لنا أن نعرف مواكبة الموت والإقامة سلفاً في ذاكرتنا الذاتية لكي نبقى كل يوم على قيد الحياة ونتغلَّب على اغتيالنا، وأن ننتظر هذا الاغتيال بلا وجل لأننا بلا ملامة).

تغمرُني هذا المساء فكرةٌ موقوفة على بعض زملائكم الذين وسمهم هذا الالتزام نفسه في أجسادهم. أفكر في مروان حمادة - صهركم - هذا الوزير الملتزم هو واحد من رموز ربيع بيروت، كما أفكّر في مَيّ شدياق، فكُلٌّ منهما نجا من محاولة اغتيال رهيبة.

أفكّر أيضاً في سمير القصير الذي دفع حياته ثمناً لحبّه الحرية. لقد قَدَّمَ هؤلاء، رجالاً ونساء، فكرةَ الحرية والمقاومة ووضعوها قبل ذواتهم، واعتبروا كما اعتبرت أنت دائماً أن الإنسان كان مجبولاً بقناعاته والتزاماته.

لقد جعلتَ صحيفتك رمزاً للديمقراطية اللبنانية، والنهار هي أولاً رمز هذه المقدرة اللبنانية على جعل طوائف مختلفة تتعايش، وطوال الحرب أيام عصفتْ بلبنان دوَّامةُ العنف والفظاعة، كنتَ تنادي الجميع وتدعوهم إلى التفاهم والإصغاء إلى بعضهم وممارسة الحوار، وارتفع صوتُك ليعلو على أزيز الرصاص وهدير المدافع، لأنك لا ترى للحوار بديلاً، بخاصة إذا كان حواراً صريحاً ونَقَّاداً ومن أجل الحقيقة.

منذ نحو ستين سنة لم تنقطع افتتاحياتك صباح كل اثنين عن حمل هذه الرسالة الجوهرية، رسالة التواصل والتسامح، ففي عالم ينحو أكثر من أي وقت مضى إلى التقوقع على الذات وإلى اللامبالاة، تبدو هذه الرسالة المبنية على الاحترام ضرورية للضمائر جميعها.

كما دافعتَ عَبْرَ التزامك السياسي عن الحرية وعن الحوار، هذا الالتزام الذي يقيم في صميمه حُبك لأرضك لبنان، حيث لعبتَ دوراً في النسق الأول من الحياة السياسية اللبنانية دفاعاً عن الاستقلال والسيادة والوحدة، أما كنتَ تقول: (لقد قضيتُ في المعارضة سنوات يفوق عددُها ما قضاه فيها المعارضون جميعاً). إلا أنك لم تتهرَّبْ أبداً من تحمّل المسؤوليات، فكنتَ نائباً وأنت في الخامسة والعشرين، وفي السابعة والعشرين شغلتَ عدة حقائب وزارية منذ العام 1953، في التربية والإعلام والشؤون الاجتماعية والصناعة والسياحة، وقمتَ بين نهاية 1970 ومطلع 1971 بمهام نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير التربية.

لقد بقيتَ طوال هذه الحقبة الوظيفية أميناً لقناعاتك، تقود خطواتَك الاستقامة والنزاهة والتفاني والإخلاص لمواطنيك ولوطنك. كما دافعتَ عن قضية بلادك في المحافل الدولية، مقتفياً آثار شارل مالك أستاذك السابق في الجامعة اللبنانية، وأحد آباء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومَثَّلتَ لبنان في الأمم المتحدة طوال خمس سنوات كانت عصيبة وحاسمة في حياة لبنان. كم من قرار للأمم المتحدة سعيتَ إلى إصداره حول لبنان أثناء تلك المرحلة، وكنت بشكل خاص خلف القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن الذي أقام قوة الفصل في لبنان في التاسع عشر من آذار 1978. إلى اليوم لم تفقد الصرخةُ التي أطلَقتها العام 1978 (دعوا شعبي يعش) أيام كان الدم يُسفك في لبنان، لم تفقد قوتَها إلى اليوم.

من موقعك كصانع قرار في الدبلوماسية اللبنانية أوليتَ عناية خاصة لمكافحة اللامبالاة وفتور الهمم والتنازل والانقياد. قبل التحاقك بالرئيس أمين الجميّل لتصبح مستشاره الدبلوماسي، صرَّحتَ أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: (لم نأتِ إلى هنا لكي نندب بل لنعبّر عن أملنا. سوف يعرف شعبي كيف يضمّد جراحه، وسوف تندمل قريباً ندوب أرض بلادي لتنبَ الزهر والشجر)، ومن دون أن تستسلم أبداً إلى اليأس احتفظتَ بإيمانك بالإنسان وبلبنان وبالمجتمع الدولي، من أجل إعادة السلام والسيادة إلى بلادك.

تضعُ اليوم قلمَك والتزامك في خدمة السلام والحوار والثقافات، كما تحمل أيضاً رسالة نهضة عربية جديدة لأنك مُدافع متحمس عن الانتماء إلى العروبة، حين أسهمتَ في 1950 إلى جانب كمال جنلاط في تأسيس جامعة الحقوق والعلوم السياسية والاقتصاد يكون التدريس فيها باللغة العربية. أنت بهذا العمل، وارث جدير للنهضة التي نادى بها شكري غانم وجورج سمنة وشكيب أرسلان وطه حسين وآخرون. ينبغي لنهضة الثقافة العربية، من وجهة نظرك، أن تمر عبر حوار جديد بين المسلمين والمسيحيين، وبين ضفتّي البحر المتوسط.

كونك متوسطياً عربياً تعني تلبية الحاجة التي شعر بها لبنان إلى استقبال حضارة الشرق وحضارة الغرب في آن معاً.

لقد تَعَلَّقتَ بلبنان (عالمي) جواب آفاق، بلبنان التسامح الثري بتعدديته حيث (الكلمة هي السلطان في واقعها التعددي). كما أنك تعتبر التحدث بأكثر من لغة أمراً حيوياً من أجل الإسهام في أكثر من ثقافة.

في هذا الحوار بين ضفتي المتوسط، أعطيتَ اللغة الفرنسية دوراً تأسيسياً. الفرنسية لغة القلب، وهي كما قلت (الحامل الثقافي بامتياز، وهي حوار في إطار حفاوة النفس بالتسامح وتبادل الآراء، حيث يكون بوسعنا أن نتفاهم وأن نثق ببعضنا منطلقين نحو سُمُوّ واحد).

حُبُّكَ لغَتَنا جعل منك سفيراً متألقاً لأسرة الناطقين بها، ولسائر القِيَم المرتبطة بها، هذه القيم التي يتعلَّق بها بَلَدُنا: ثراء حوار الثقافات والحرية والديمقراطية والسلام.

عبر عملكَ بالنشر، تابعتَ باضطراد المَهمَّة نفسها في الإسهام بالتعريف بكبار اللبنانيين ممن كتبوا بالفرنسية وبتوفير توزيع الأعمال للفرنسية المترجمة إلى العربية. أنتهزُ هذه المناسبة لأعبّر لك عن فخري برؤية واحد من دواوين شعري منشوراً بفضلك في لبنان مُتّرجَماً إلى العربية بقلم هذا الشاعر العظيم والصديق أدونيس. كما أقمتَ مؤسسة ناديا تويني من أجل جمع الأعمال المتناثرة لزوجتك الأولى، وإحيائها. بفضل انخراطك في هذا العمل استمرتْ الأشعار ذات البساطة المتناهية والبراعة، التي كتبتها هذه المرأة (ذات الثقافتين) في إلهام الشعراء العرب والفرنسيين والناطقين بالفرنسية في أرجاء الدنيا.

لا تقود أنتَ وحدك هذه المعركة من أجل (الفرنكوفونية)، إنها معركة زوجتك شادية الخازن التي تدير مكتبة البرج. إنها في آخر الأمر معركة مواطنيك وأصدقائك، ينوس خوري غاتا وصلاح ستيتية، الذي أحرص هنا على توجيه تحية صداقة إليه وإلى كثيرين من أمثاله، ممن لا أستطيع التنويه بهم في هذه الأمسية.

غسان العزيز، منذ ستين سنة ألزمتَ نفسكَ بالعمل بلا هوادة من أجل سيادة لبنان ومن أجل الحوار والسلام. ولبنان اليوم، (هذا البلد لعسير كقصيدة طويلة) كما كتبت ناديا تويني، قد استعاد استقلاله وسيادته. أنت اليوم هذا الوجه السامي الذي يطفو في (لبنان الجديد)، من هذا البلد الذي سوف يبقى دائماً ضرورة من أجل وجود مجتمع للتفاهم الإسلامي المسيحي.

من أجل كل ما كتبتَ ومن أجل نضالك كإنسان حر، ومن أجل عملك الحاسم في خدمة الفرانكوفونية ولبنان، وتكريماً لك كشخصية شاسعة، تمنّى رئيس الجمهورية الفرنسية التنويه بك وتشريفك. إنه إذن شرف كبير لي وفرح غامر حين أقلدك اليوم باسم رئيس الجمهورية وسام جوقة الشرف من رتبة ضابط.

***النص الكامل للكلمة التي ألقاها دولة رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومنيك دوفيلبان في حفل تقليد الأستاذ غسان تويني وسام جوقة الشرف من رتبة ضابط ، وينشر للمرة الأولى باللغة العربية بموافقة خاصة.

* رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق - باريس


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة