Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

الشجرة الطيبة
حسن ساتي*

 

 

كم هي جميلة ومرهقة هذه المهنة الولود، مهنة الكلمة التي في البدء كانت..

يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء(24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25)) سورة إبراهيم.

وكان أحمد شوقي قد قال:

لكل زمان مضى آية..

وآية هذا الزمان الصحف..

وفي البرلمان البريطاني ويوم أن خصصوا شرفة لأهل الصحافة، سأل نائب بريطاني، يفوت عليّ إسناده كما يقول شيخنا الجاحظ، سأل زميله همسا وهم في داخل الجلسة، ومن هم أولئك الجالسون في الشرفة: فقال له: أولئك ممثلو السلطة الرابعة، ومن يومها سارت العبارة مسار الشمس.

مهنة سداها ولحمتها الكلمة، ومهنة أصبحت آية زمانها، ومهنة هي سلطة، فأي تكريم فوق ذلك.

المهنة الولود، مهنة الصحافة، يمكن أن تلد لك، كما الأمهات، وكما الأشجار، الشقراء الجميلة، أو البرتقال أو التفاح، أو الفتى القوي الأمين، مثلما يمكن أن يلدا، أي الأمهات والأشجار، أناس أو فواكه بعيوب خلقية، أو بمذاقات حامضة، وهنا أيضا يقول القرآن: وكلمة خبيثة كشجرة خبيثة.

تلك مهنة الصحافة إذن، تهدي الإنسانية الشامخين الباسقين كما النخل، ومن بين هؤلاء بلا جدال شيخنا وزميلنا وقدوتنا غسان تويني.

سيرة متخمة بالإنجاز والمواقف الوطنية والقومية التي ما برحت تدافع عن شرف الأوطان والمهنة، وعبرهما عن قيم الخير والعدل والجمال والحرية منذ أن أسس جريدة النهار عام 1933، ورياح الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق، فإذا هي، أي النهار قلعة من قلاع الكلمة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين وهي الآن في عهدة الجيل الرابع، ولا أحسب أن طوبة أو ترسا في ماكينة فيها لا يردد همسا وعلنا: أبانا غسان تويني.

أعانت دراسة الفلسفة كثيرا أستاذنا غسان في أن يشكل معادلته في الحياة، وتلك المعادلة هي غاية إي إنسان، ومن دونها لا فرق بين الإنسان والدواب. والفلسفة كذلك حين يرتع الإنسان فيها في ربيع الفكر الإغريقي، وخريفه وشتائه ،كما قسمها المفكر المصري عبد الرحمن بدوي، وحين ينكفئ على ماضي الفكر الإسلامي فيقترب من الفارابي وأبن سينا وابن رشد، أو حين يقلع غربا إلى ديكارت ونيتشة، بل وهيجل وكارل ماركس. ويقيني أنها قد أعانت شيخنا كثيرا منذ تخرجه من الجامعة الأميركية عام 1947 وهو في عنفوان الشباب في الواحدة والعشرين من العمر بعد شهقة ميلاده عام 1926 في حي الأشرفية ببيروت من عائلة مسيحية من طائفة الروم الأرثوذكس. والغريب هنا أنه تخرج والحرب العالمية تضع أوزارها، وكأن كل المسرح العالمي، أو قل المشهد يقول له: هيت لك، أو لكأنه يعقد معه موعدا بأن يكون لسان حال كل لبنان مع اندلاع حربه الأهلية في 1975، ليسند لبنان له عام 1977 سفير لبنان بالأمم المتحدة. وماذا يريد لبنان، ومن أين له أن يحصل على رجل تجتمع فيه سعة الأفق بالفلسفة، وتمحيص المواقف واختيار الكلمة المناسبة وضبط المصطلحات بشخصية الصحافي وأعراف المهنة؟، وأظنه لبنان قد تلفت ليجد أن قامة شيخنا غسان وفكره أكبر من أن يحتويه مكتب لرئيس التحرير في صحيفة النهار، أو حتى مكتب لوزير في وزارات الصناعة والنفط والعمل والشؤون الاجتماعية والسياحة، أو حتى حقيبة وزارة الإعلام، وجميعها قد تقلدها في حكومة رشيد كرامي إلى أن استقالت في ديسمبر 1976م.

تاريخ عريق يحمله أستاذنا غسان تويني، وأحسب أن الأقدار ذاتها قد احتفت به وبعلمه، فأرادته صحافيا لمرحلة كانت رياح الحرب العالمية تهب، وصحافيا أيضا وهي تضع أوزارها، وتنفيذيا ولبنان ينحدر في حرب أهلية، ودبلوماسيا حين استعصى حل المشكلة بين اللبنانيين فاحتاجوا إلى أن ينقلوا القضية إلى مسرح عالمي. ثم وأستاذا تربويا مع تبدلات النظام الدولي، ودخول الإنسانية معه حقبة هذا الذي يعرف بالنظام العالمي الجديد عام 1990 مع سقوط الشيوعية وحائط برلين، إذ وقع الاختيار على شيخنا غسان ليرأس جامعة البلمند.

وممتعة هي سيرة شيخنا غسان، فرجل توافرت له خصائص مهن قامت على الكلمة، صحافيا كان أو دبلوماسيا أو تنفيذيا أو أستاذا تربويا، فكيف له أن يؤسس حياة في دائرته المغلقة، وماذا تكون غير الحياة الزوجية؟

وهنا أيضا أحسب أن الفلسفة قد أشهرت سلاحها، فتعاطفت الأقدار فحمت شيخنا غسان، فإذا بالكلمة تطارد شيخنا غسان، أو قل هو الذي يطاردها. ففي محيط الجمال الحسي والمعنوي المعروف عن بيروت، سكن شيخنا إلى الشاعرة والأديبة نادية حماد ابنة السفير محمد علي حمادة في زيجة كانت من أشهر الزيجات التي اخترقت الحواجز الطائفية في لبنان. وأي حياة هذه في ثرائها حين تنضم أنفاس الشعر إلى حراك الصحافة والدبلوماسية والأستاذية والمناصب الوزارية.

ولكنها الحياة أيضا، فقد غالبت الزوجة نادية مرضا عضالا إلى أن رحلت عام 1983، لتمهله الأقدار اثنتين وعشرين عاما ليرحل ابنه جبران في حادث اغتيال مفجع يوم 12 ديسمبر 2005، والشيخ في خريف العمر في التاسعة والسبعين يمني النفس بعام جديد حزينا مع أقدار لم تمهل الابن جبران غير ست أعوام فقط في رئاسة تحرير صحيفة النهار بعد أن تخلى شيخنا عنها له في 1999، وكأنه يتحسس أفق ألفية جديدة أراد فيها لجيل الشباب أن يحمل مسؤولياتها عنه.

الكتابة عن غسان تويني في مقال واحد أقرب إلى تكليف بأن يبحث الإنسان في حقل للنحل عن غذاء ملكات النحل، فالرجل ملك في مملكة الصحافة. ويكفيه أنه وما أن يقبل تكليفا وطنيا، وتنتهي برغبة منه أو بقرار من الآخرين، خدماته فيه، وإلا نجده قد عاد إلى الصحافة، إلى الكلمة الشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين.

الكتابة عن كاتب وصحافي في قامة غسان تتعثر كثيرا بسبب التعدد في مواهبه وملكاته، ولكن حسب الرجل أنه كان أقرب إلى الاستثناء منه إلى العادة التي ظلت الحياة ترفد بها في مسيرتها مهنا وتخصصات كثيرة.

ومن عجب أنني وعشية النية في كتابة هذا المقال، كنت أعد حلقات من الوثائق السرية البريطانية لصحيفة الشرق الأوسط عن مرور عامين على حرب لبنان الأهلية التي اندلعت في 1975، فوقفت على وثيقة سرية برقم: 33 بتاريخ 12 مايو 1977، معنونة بصورة سرية من السفير البريطاني السير بيتر واكفيلد إلى الخارجية البريطانية عن مقابلة له مع الأمير فاروق أبي اللمع مدير عام الأمن العام، تناولت شؤونا كثيرة وبينها مخاوف إبان الحرب الأهلية، فقال أبي اللمع: إنه يعتبر أن ذلك التخوف ليس بديلا للبنان الموحد.

حين بدأت في اليوم التالي لأكتب عن شيخنا غسان طافت على ذهني المقاربة في حيثية الإدانة التي حملتها الوثيقة البريطانية المشار إليها أعلاه. صحيح أن شيخنا الأستاذ غسان من الروم الأرثوذكس، وأبي اللمع من الموارنة، ولكن شيخنا ومنذ ذلك الزمان كان يسبح ضد الخوف وضد التيار. إنها الكلمة الطيبة والفلسفة الثرة التي تؤهل نادرين في هذه الحياة أن يكونوا كذلك، مشاعل خير ومحبة وسلام، ورجال مواقف، لا تنال منهم الأحزان حتى حين يطول الغدر فلذات الأكباد، وكل ذلك الحال كان ولا يزال هو غسان تويني متعه الله بالصحة والعافية.

تستحق أسرة مؤسسة الجزيرة بالسعودية تهنئة على الاحتفاء بهذا الرمز العربي واللبناني الكبير وبرجل الكلمة الشريفة في بلاط السلطة الرابعة أستاذنا غسان تويني، مثلما أجدني ممتنا باختيارها لي لأكون الصوت السوداني الذي يغرد ضمن فرقة تفوقني فنا وأداء ومواهب.

* كاتب وصحافي وأديب سوداني


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة