Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

غسّان تويني.. المعلّم والحُريّة
محمد بنيس*

 

 

1

تكريم غسان تويني تكريم لنقيض ما يسود العالم العربي. تكريم للشعلة التي تعين مواقع المشاة في مسار بناء مجتمع عربي حديث. إنه موعد أن ننتبه إلى الشعلة ومواقع المسار، في آن، بعد أن أصبح ما يقود زمننا نحو استدامة الخراب هو ما يحضر في الحواس والنفوس. شعلة لا تتوقف عن الإشارة والإشارة. ضوءٌ في الأوقات كلها التي لم نعد نجرأ على أن نختار لها تسمية شاملة، لشدة الخراب الذي نحن فيه. الجهل والحرب والتبعية والاستبداد.. من يريد أكثر؟

من حق كل من يؤمن بفكرة النقيض أن يستعيد الذاكرة، يضعها في المكان الملائم لها. أعني المستقبل. هو المكان الذي منه يصبح للماضي معنى مثلما يبقى للحاضر معنى. الفكرة النقيض التي كانت مصدر الكلمات المحولة، الحالمة، الجسورة. قبل أكثر من قرن، وفي أمكنة مختلفة من العالم العربي، كانت الفكرة النقيض للجهل والحرب والتبعية والاستبداد هي التي أعطتنا عربية جديدة، نابضة بقوة أن نحيا. لا التاريخ هنا يصبح حكاية ممقوتة ولا الحلم رذيلة. التاريخ والحلم كان لهما معنى مركزُه الحرية. وفي الحرية كان لنا ما لم نتوقف عن الإقامة فيه، عبر بلاد عربية. نحن المقيمون الذين ننصت إلى هذا الهدير الجارف، المتوحش، يأخذ منا الحياة باختصار. يترك ما يقتلنا علناً في الشوارع يتكلم، له السيادة.

تكريم لأجل ذاكرة هي مستقبلنا، أو هي مستقبل من يؤمن بأن الفكرة النقيض هي المسار الممكن. عبثاً أن نخلط بين الذاكرة والحنين. لا أبداً. ثمة ما هو أبعد من الحنين في الذاكرة كلما شعت في أرجاء لا نراها دائماً. الذاكرة هنا هي المحافظة على الضوء، حراً، في المسار الذي يظل هو نفسه، مهما تبدلت الأزمنة وتبدلت الجغرافيات. بالذاكرة نتجمع حول السؤال وبها نكون أمام ما لا يختفي. في الحواس. ونحن من هنا وهناك، أبناء العالم العربي، يقظون وحالمون. لا لأن اليقظة والحلم من الكلمات التي يجب هجرانها بمنطق الخراب، بل لأنهما نسغ الحياة، بامتياز. كلمتان تضيعان في تراكم الخراب، جيلاً بعد جيل، وأرضاً بعد أرض. ثم كل واحد، من هؤلاء الصابرين، يفتح لهما خزائن الأسرار حتى لا ينزلق نحو مباركة صناعة الخراب، صمتا أو تواطأ. ذلك ما نجربه ولا نخشى.

2

واليوم نستحضر هذه الذاكرة في اسم غسّان تويني. أعطي هذا الاسم مرتبة الذاكرة لأنه تحمل أول مرة مسؤولية رئاسة صحيفة (النهار) في السنة التي أنا ولدت فيها. بهذا أقرأ تاريخه المتفرد 1948 بيني وبينه هذه الوشيجة الصامتة. ميلاد لنا نحن معا، أنا الوليد المقبل على الدنيا وهو الشاب المتعلم الذي يأخذ مكان المسؤول عن الكلمات كلها في صحيفة ذات اسم رمزي، هو (النهار).. تلك الوشيجة أرعاها كلما أحسست بأن الأرض تهوي والمكان الأول يضيع. لا أحد يستطيع أن يسرق هذه الوشيجة. هي هنا. في الحواس التي تقود الخطى مثلما هي الفكرة.

اسم هو أحد الأسماء العليا للذاكرة. شاب متعلم بفكر حر، يرث عن أبيه جبران كيف يحافظ للفكرة عن حيويتها. أتخيله متشبعاً بوطنية متمردة. أجلس قريباً منه وأنظر إلى الفضاء الذي أصبح له.. الصحافة. إنه سليل الدرس الفلسفي الحديث والأفكار السياسية الحديثة. أبوه الذي وجهه نحو الدراسة في أرقى معاهد التعليم الأمريكية، هارفرد، كان مدركا حقاً لواجب الأبوة. كان يريد لابنه أن يدافع عن الفكرة بلغة لها سند معرفي وذات أفق كوني. بدونهما لم يكن لغسّان أن يكون الشخص الذي تعلم أن المشي هو لغة المستكشفين لخرائط جديدة موضوعة لحرية الإنسان قبل أن تكون رهينة في يد المجندين للغارة على مصائر بلاد وشعوب.

يأخذ غسان تويني مكانه في مكتب رئاسة تحرير الصحيفة ويقتحم الطريق الصعب الذي هو السياسة. أتخيل قوميته مجنحة. تحب المغامرة. لا تخشى. وفي كل ذلك درس أول كان له أن يتقنه بكل كفاءة. اليوم واليوم الذي يليه. غسّان تويني. في المدار اللبناني يرحل، ماشيا، مؤمنا، لا يأبه ولا يتراجع. تلك هي مقالاته التي كان أخذ في كتابتها ثم امتدت عبر حياة بأكملها. دائما أتخيله. يتحرك في اتجاهات المواجهة مع ما يتعارض مع الفكرة السيدة. الحرية. من يجرؤ على تخويفه أو تخويف معنى الكلمة في كتابته؟ هذا الشاب لا يكتب إلا لأن لديه إيماناً بالفكرة. يقبل، ككل مؤمن، على الكتابة. وفي اليوم واليوم الذي يليه، تنحفر الفكرة في مسار شخصي وجماعي في آن.

أتخيله دائم الحركة، بين فضاء سياسي وفضاء صحافي. وهو لا يرى تعارضا بينهما. الفكرة في الجسد، شعلة تضيء المسار. من جاؤوا ومن تجرؤوا ومن أعطوا الفكرة هيئة الأفق الكلي. هؤلاء جميعاً في كلمات وفي مواقف. ومن لبنان يعيد القراءة التي يتطلبها الزمن. إنه الشاب الذي يشاهد الهزائم تتلاحق ويشاهد قمع ما ينفجر في الجسد، سؤالاً وفكرةً وموقفاً.

3

في مقالات وكتب كنت وأنا شاب، ثم في الكهولة بعد الشباب، ألتقي بغسّان تويني. إنه اللقاء الأبهى. دائماً. أن تلتقي بكاتب في كتابته لهو أعز لقاء. أعز وأصعب؛ فكثير هم الذين نقرأ لهم، في شبابنا، بفعل الحماسة أو بفعل الفضول ثم، ونحن نكبر، نتركهم يكتبون ما يشاؤون، بدون اكتراث لما يصبحون عليه، سطحية أو خيانة للفكرة أو استهانة بمسوؤلية الكتابة. فما يهم في الحياة هو أن نعرف من ننصت إليهم باستمرار ومن الذين لا نتخلى عن معرفة ما يكتبون.

لقاء في الكتابة.. مقالات وكتب.. ورغم أنني زرت لبنان أكثر من مرة، فأنا لم أخاطر بالتعبير عن الرغبة في اللقاء المباشر بغسّان تويني.. مجال اهتمامي المباشر ليس هو مجاله المباشر، وحتى عندما زرت صحيفة (النهار) تحاشيت أن أعبر عن رغبة ما.. لا أحب الالتباسات.. شخصية بمكانة غسان تويني لا ينبغي أن نشوش عليها بلقاء هو من صنف اللقاءات التذكارية.. لقاءاتي معه في الكتابة أعز وأصعب.. في أمكنتي المخصوصة أتابعه.. أقرأ بعض ما يكتب.. ثم أفضل أن أتخيله ماشياً، راحلاً، يتبع الأثر الذي نذر لأجله حياته.. الحرية.

وفي كل مرة كان السلوك نفسه مع شخصيات من عالم الصحافة أو السياسة.. نادراً ما تجرأت على طلب لقاء أو السعي إليه.. احتراماً لعمل الواحد ولانشغال الآخر ولاهتمام الثالث.. ذلك الأعز الصعب هو ما أنا حريص عليه.. وغسان يعرف قراءه عن خبرة.. يعرف صنف الذين يتابعون درسه، من موقف إلى موقف ومن كتاب إلى كتاب.. كنت عندما أقرأ كتاباً من كتبه التي تقترب من مجالي أشعر برعشة.. كيف لغسّان تويني أن يحافظ على عنفوان لغته مع ما تبدل في الزمن وما عرف وعاش وجرب.

4

المغرب بعيد عن لبنان.. في اليومي.. وفي التفاصيل التي لا يمكنني أن أستوعبها بسهولة. هو هناك، في بيروت. أو هناك، بين نيويورك وباريس. وفي بيت يجمع بين الفكر والصحافة والسياسة والشعر، يمكنني أن أتخيله يتنقّل من فضاء إلى فضاء مازجاً بين المعرفة والخبرة والذوق لأجل صياغة عبارة ستكون صديقته في الكتابة وفي الدفاع عنها.

يفيدني سلوك غسّان تويني. من مكان الكتابة، وفيها أراكم منه ما يفيد. وأنا أعلم أنني أقتصر في حياتي على مجال ضيق، مقارنة بالمجال المتسع على الدوام، المعرض للهزات وللآلام.

أقول عنه الصادق، لا يكفي.

أقول عنه الوفي، لا يكفي.

أقول عنه الشامخ، لا يكفي.

أحتاج إلى لغة أخرى كي أقترب من شساعة مجاله ومن السلوك الشخصي الذي حافظ عليه، في مراحل حياته التي هي في كل يوم نفسها، موقفاً واهتداءً بالفكرة. وعندما نكون أمام شخصية كشخصية غسّان تويني نحتار من أين نبدأ في الاقتراب منه.

بدأت بالذاكرة وبالحرية، لأنهما، بالنسبة إلي، مبتدأ الكلمات.

ويمكن أن أختار له (المعلم)، حتى تستقيم الجملة الأولى.. لهذه الكلمة تاريخها في جميع لغات الحضارات الكبرى. بهذه الكلمة نعلن عن المكانة التي تصبح موقعاً على مسار المشاة وهم، جيلا بعد جيل، ينصتون إلى الذاكرة ويمشون. كلمة (المعلم)، في مثل هذه الدلالة، نلمسها تتجسد في حياة غسّان تويني. صحيفة (النهار) التي تحولت على يديه إلى بيت يضم أصحاب الرأي الحر وأصحاب المغامرة الأدبية والفنية على السواء.

دار (النهار) المستقلة بمشروعها التحديثي في الدفاع عن حرية التعبير وفي التواصل مع الأفكار النقدية والتعبيرات الجمالية، من شعر ورواية وفنون تشكيلية ومعمار.

5

لا أختصر حياة غسان تويني في الصحافة والنشر. سبق لي وأوضحت القصد. الشخصية السياسية والديبلوماسية تبدو في المقدمة لغيري، القريب من لبنان ومن تفاصيل الحياة اليومية، السياسية والاجتماعية. إنني معني بهذا الشأن، لكن علي أن لا أجانب ما كان لي مع غسّان تويني. إنه المتعدد القدرات والمتعدد الأفعال. لكنه الكاتب المثقف والمدافع عن الكتابة والثقافة.

ما زلت أتذكر تلك الفترة البهية من شبابي وأنا أراسل (النهار العربي والدولي) من المغرب. كان المركز آنذاك في باريس. في (النهار العربي والدولي) قرأت لكبار الكتاب والأدباء ومن خلاله اطلعت على حركة الثقافة العربية، بلمسة نقدية. كانت الأسبوعية ملتقى مشارقة ومغاربة، فيما هي كانت مرجعاً لحركة الثقافة في العالم. اختياري آنذاك كمراسل ثقافي أغنت معرفتي الثقافية ومكنتني من ممارسة الكتابة التي لم أكن متعوداً عليها. وأذكر أن ما كنت أكتب فيها كان يعثر على صداه المباشر في الحياة الثقافية المغربية وأحياناً كنت أتلقى أصداء ما أنشر من جهات عربية أو من عرب يقيمون خارج أوطانهم.

لكني كنت دائماً من قراء إصدارات دار (النهار). حرصي على إصداراتها كان تعبيراً عن تقاطع اهتماماتي الثقافية مع ما يصدر عن الدار. وفي قراءة الإصدارات كانت المتعة لا تفارقني. العناية باختيار حجم الكتاب والحروف. نوعية الورق. التميز في الغلاف. متعة كانت شبه مفتقدة في أغلب الإصدارات العربية التي كانت تراعي الربح التجاري دون إيلاء جمالية الكتاب ما تتطلبه من العناية. الكتاب. بكل ما يعنيه من منتوج مستقل بذاته؛ فهو يحمل تاريخاً مجيداً في سائر الثقافات، القديمة والحديثة. الكتاب العربي القديم بكل فنيته الرائقة التي تجمع جمالية الخط والتسفير، ثم جمالية الكتاب الأوروبي الحديث، بهوامشه البيضاء وأناقة تصفيف الحروف. كل ذلك كنت أتمتع به في إصدارات (دار النهار).

6

يمكن الاستشهاد بمقالات وبكتب لغسان تويني. استشهاد من أجل أن نعرف أين مكان كتاباته في زمننا. من جهتي أختار عملا يعبر أكثر عن مركز كتابات غسّان تويني. إنه (حفنة من تراب مقدسي لإدوارد سعيد). يبدو هذا الكتاب في البدء مفاجئاً. مفاجأته تأتي من كونه خارجاً عن الانشغالات الاعتيادية للصحافي والسياسي. لا. أقول. مفاجأته أنه أعطى السياسي والصحافي فرصة استعادة المنطلق الذي كان له والمسار الذي قطعه والمآل الذي يتوجه نحوه.

كتاب عن إدوار سعيد فيه من القضية بقدر ما فيه من الفكر والذكرى والأدب. كتاب عن الحرية، تماماً. غسّان تويني، الطالب في هارفرد، هو الشخص الذي عاد إلى لبنان أو تنقل بين مسؤوليات رسمية، دفاعاً عن الفكرة التي كانت له. الحرية دائماً. الحرية للبنان. الحرية لفلسطين. الحرية للعالم العربي. الحرية للتعبير والرأي. وهذه كلها يجسدها إدوارد سعيد، في حياة كانت له فيها الدراسة المدافعة عن قراءة مختلفة للعلاقة بين الثقافة الغربية والعالم العربي - الإسلامي. لكنه كان، بعد هزيمة 1967، وهي التي عين فيها غسان تويني سفيرا للبنان في الأمم المتحدة، صاحب حياة جديدة مع النضال من أجل فلسطين. مقالاته لا تقل معرفة عن كتبه ودراساته.

(قلة متفائلة هم الذين يموتون من فرط حبهم لمدينة).

يكتب غسان عن إدوارد.

شهادة من كاتب حر إلى كاتب حر.

7

لم ألتق غسان تويني إلا في كتاباته. كتابه إلى إدوارد سعيد هو الذي يدلني على الوفاء للفكرة، من خلال ما لا نتوقع من سياسي وصحافي، إن نحن اقتصرنا على النظرة المتداولة. لكن هذا الكتاب نقطة ارتكاز في كتابات غسان تويني. وهو، في الوقت نفسه، سيرة متخفية لحياته.

الفكر والمعرفة. السياسة والصحافة. المسؤولية في الدولة والمسؤولية في الكتابة. كلها وجهت حياة غسان تويني. أتأمل منصتاً إلى هذه الحياة التي اختبر فيها معنى الدفاع عن فكرة الحرية ومعنى غرسها في العائلة لتكون الشعلة التي تضيء مسار أي إنسان خرج من الجدران المغلقة إلى شساعة الحياة، متوقداً بالفكر والفكرة في آن.

تلك هي سيرة معلم ومسار معلم.

وأنا في الطرق الأقصى من العالم العربي أعثر على معلم آخر في لبنان. أنصت إليه من ذلك البعيد الضروري للتحية التي لا تتنكّر ولا تندم. أقترب منه في الكتابة وفي رؤية كان لها من الاحتدام بقدر ما كان لها من العودة إلى السؤال من جديد عن الأساسي الذي هو الكلمة التي تقود. في ليل الخراب المستديم. كأن ما كان لا يمكن قياسه إلا بما هو نقطة الارتكاز التي حصنت وآنست وقادت.

وفي الجهات كلها من حياتك. ما كُنتَه في الكلمة التي كنت تسكن إليها وكانت تسكن إليك. كلمة الاختيار والمسار. كلمة الفكر والموقف. كلمة كل من جاء من أجل مستقبل عالم ينطلق نحو أفقك. أفق ما هو. الحرية.

* أديب وشاعر مغربي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة