Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

الشاهد الملحمي.. غسان تويني
خالدة سعيد*

 

 

كيف نشهد للشاهد، حين يكون شاهد العصر، وشهاب الرؤية وجرح الوعي. كيف نشهد لمن عبَر نيران المحن ودفع دائماً ضريبة الحلم اللبناني سجوناً ودماء غالية وعمراً من الرؤى والبناء.

ما التقيت غسان تويني قبل الستينات؛ لكنني أُخذت بصوته ودوره عن بُعد، ومنذ أوائل الخمسينات، حين كنت في بدايات وعيي السياسي وذروة أحلامي المثالية بالحق والعدل رأيت فيه يومذاك فارس الحرية وقلعة الرأي الحرّ.

لا مجال الآن للكلام عن الجانب الأكاديمي في شخصية غسان تويني، هو الذي بدأ طريق الصحافة حاملاً أرفع الشهادات من واحدة من كبريات الجامعات في العالم. فامتياز هذه الشخصية يتعدّى مستوى الدرجات العلمية التي يحملها كثيرون. امتيازها يقوم في الاستنارة بالعلم ونفاذ الرؤية لقراءة الحدث والموقف في أضواء الماضي وتباشير المستقبل. ذلك أنّ قوام هذه الشخصية هو التطلعات الشاهقة التي سبقت علومه وتواصلت بعدها. إنها التطلعات التي لا ترى العلم إلاّ حيّاً نامياً فاعلاً، لا تراه إلا ما يحيا ويزدهر ويثمر في ميادين الحياة ومسيرة الإنسان وعلوّه على الدمار الأخلاقي الوطني قبل الجسدي.

كان الزمن كما هو اليوم، وكما كان لعهد طويل، وكما قد يكون لعقود آتية زمن معركة الحقوق والحريات، وزمن الحلم بنهضة الإنسان في هذه الأرض المقدسة المنكوبة. وكنت في بدايات وعيي السياسي الوطني وحماستي الجامحة. ومع أنني كنت خارج لبنان، كنت أحسّ أنني ومن معي محصّنة ومحروسة بجريدة (النهار) وعلى الأخصّ بشجاعة صاحبها ومحرريها والتزامهم قضية الحرية، وأنّ هذه الجريدة ضمانة للرأي الحرّ.

غسان تويني ورعيله من المفكرين والصحفيين اللبنانيين الذين ساروا في طرق صعبة أوصلت بعضهم إلى الشهادة، برزوا قوة معنوية تستبسل لتواجه أعتى القوى، القوى المسلحة بكل أسلحة السلطان. تمثلت في غسان تويني وجريدته القوة المعنوية في نصرة الحق والعدل وفي الحرية والرأي. القوة الفكرية الأخلاقية، البصيرة التي لا تهادن ولا تتهيب مقاومة القمع والظلم والطغيان. إنها قوة الجذر الذي يشق الصخور، قوة الحلم الإنساني والفكر الحر في وجه السلاح الأعمى، قوة الكلمة الذكية اللماحة الخارقة للعوائق، تذهب في اتجاه الحق بلا مواربة أو مراعاة. هي قوة مستمدّة من إنسانية الإنسان، المصدر الأعظم للحقوق والقوانين.

كانت شجاعة غسان تويني والصحافة اللبنانية في التزام قضية العدل والحرية والكتابة الجديدة سنَداً حقيقياً لأحلام الأجيال الطالعة. كانت الصحافة اللبنانية، كما مثلتها جريدة النهار وأخواتها اللبنانيات وبعض الصحف العربية كما في مصر، دولة معنوية مهيبة لكن بلا قمع ولا سجون أو جيوش. ولا تزال جريدة النهار الصوت الصاعد من الناس وواقعهم. وكم قاومت هذه الجريدة وأخواتها الأصوات الهابطة من موقع السلطة العسكرية أو شبه العسكرية، حيث الرأي جريمة، وكل ما يصعد من القاعدة مخيف أو مشبوه.

وكم من معركة خاضتها (النهار) ومعها الصحافة اللبنانية دفاعاً عن مثقفين في بلد عربي آخر أو عن لاجئ سياسي أو مثقف اتُّخذ القرار بإبعاده، فكل قضية للحريات والحق في التعبير هي قضية غسان تويني وجريدته.

ربما كانت القداسة التي تتمتع بها حرية التعبير هي في مقدمة الخصوصيات اللبنانية، فالتصور اللبناني للدولة (لا لواقع الدولة) لدى غسان توني ورعيل من المثقفين اللبنانيين مبني على احترام التنوع والحق في الخصوصية؛ ولا ضمان للتنوع مع العدل بدون حرية التعبير وحرية النضال السياسي من أجل الرأي. فكل أقلية في لبنان لها مكانتها لا تغني عنها أكثرية، ولا ينوب عنها صوت آخر، ولا إمكان لقيام دولة عادلة وفاعلة وراسخة مستمرة، مع واقع التنوع، بدون هذا التعايش النادر وشبه الخارق. هذا التعايش الخارق له شروطه الحتمية، فلا مجال له ولا مستقبل بدون التساوي أمام القانون وبدون حرية التعبير وشجاعة التعبير. إنه لثمن غالٍ وفريد في بلد فريد. لكنّ لهذا الثمن الغالي ما يكافئه: فمع حرية التعبير يصبح الاختلاف والتنوّع غنى، يصبح حافزاً ولقاء عبقريات. ودون ذلك يضربه الظلم والظلام وينزلق فوق مهواة التمزق. وإذا لم تكن رؤية هذا التعايش المبني على العدل والتعاون والتبادل والحوار حكراً على غسان تويني والصحافة فإن صوت غسان تويني طليعة طلائعها وعَلم بين أعلامها وركن أساس فيها. ورؤيته السياسية تأكيد على العمق الحضاري التاريخي الذي أنتج هذا التعدد والتميز داخل الحضن الكبير للعروبة.

وغسان تويني، كمفكر وشاعر خفر أو متخفّ، هو عارف كبير بالشعر. لا يبارى في معرفة الشعر وخصائص الشعراء، بل هو حافظ مدهش لقصائد الكبار.

وهو رفيق العبقريات اللبنانية والعربية، وحامل لوائها ومجدد ذكراها ومؤرخ نضالاتها وإنجازاتها. فقد اختصّت دار النهار بإعادة طبع المجموعات من المجلات الشهيرة والدوريات والأعمال التي صدرت منذ مطالع القرن العشرين حتى ما قبل الحرب الأهلية.

وهو نصير العبقريات النسائية وحاضن نتاجها. إنه يقدم مثالاً فريداً في عالمنا العربي بما كرسه من جهود لتكريم زوجته الراحلة الشاعرة ناديا تويني. وهي جهود لم تقتصر على ما أوقفه باسمها وعلى مساعدة المدارس والمستشفيات وإنشاء أقسام باسمها، بل تمثلت خاصة في المؤسسات الثقافية التي تعنى بنتاج ناديا تويني، كما تمثلت في الجهود التي بذلها لصون تراثها ونشره وترجمته وعقد المؤتمرات لدراسته، وتحويل بيتهما الموقوف باسمها إلى مركز لدراسة الشعر.

إنه مثل أبطال الإنجيل صارع الموت بالمحبة والعطاء؛ ومثل أبطال التراجيديات والملاحم الكبرى في صراعه مع المحن التي نزلت به بدءاً من ابنته نائلة وزوجته ناديا تويني ثم ولده الأصغر مكرم، وهي محن بلغت ذروة الفاجعة باستشهاد بكره جبران تويني. ولقد كان لصوته التاريخي المنير أعمق الفعل ورجة الوعي وإنذار المصير وهو يرفع فجيعته بابنه الشهيد جبران قرباناً لوحدة لبنان والألفة بين أبنائه، قرباناً يعلو فوق اليأس وفوق جنون النزاع.

وإذا بدا أنّ غسان تويني في هذه الآلام الفاجعة يستحضر صورة بريام والد هكطور في الإلياذة فإنه في علوّه أقرب إلى إينياس الطروادي الطالع من الكارثة في احتضانه لقومه وبحثه عن آفاق جديدة للأمل والعمل، وعن أفكار ومثل للعلو بالوطن فوق التمزق والمحنة.

*أديبة سورية – باريس


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة