Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

آخر (البيزنطيين) اللبنانيين
نهاد المشنوق*

 

 

لا تنصف غسان تويني دون أن تضيف جديداً إلى ما قيل وكتب عنه وهو الكثير في 60 سنة من العمل العام. ولو لم تفعل ستكون لا سمعت منه ولا قرأته ولا تعلمت عليه وهذا نادر على كل من عمل في السياسة أو الصحافة أكثر من عشر سنوات.

عاد الشاب غسان تويني على عجل إلى بلاده من الولايات المتحدة الأمريكية ليتابع إصدار صحيفة بعد وفاة والده المفاجئة. أتى وفي ذهنه الكثير من أفكار الحداثة والعصر، فجعل من (النهار) القدوة في العمل الصحافي العربي فضلاً عن اللبناني. ليس بالشكل فقط و(النهار) كانت رائدة في هذا المجال ولا بالمضمون وقد صنعت من الكثير من كتابها نجوماً قبل أن يصبح التلفزيون الوسيلة الوحيدة لانتشار الشخصية العامة لأي كان. ليس هذا فقط، بل لاعتماد نظام الشركات المساهمة قاعدة اقتصادية لاستمرار الصحيفة. تمتلك فيها العائلة والكنيسة الأرثوذكسية حصة كبيرة من الأسهم. فاتحاً الباب أمام قادرين على تمويل استمرار صدورها في الفترات الصعبة. إنما دون دور مؤثر وفاعل للممولين على سياسة الجريدة.

(فالنهار) من وجهة نظر غسان تويني كانت صحيفة (عامة) تعنى بشؤون اللبنانيين والعرب دون تفريق في الخدمة الإخبارية. ولا تخوض معاركاً إلا في المسائل الوطنية الكبرى. ولو أن هذه الوطنية لم تكن محل إجماع في لبنان، على عادة اللبنانيين على اعتبار الوطنية سلاحاً يشهرونه في وجه الآخر في الوطن نفسه.

حاول غسان تويني دمج حزبيته، بنجاح تجربته (العامة) في الصحافة. فلم يستطع. تخلّى تويني عن حزبيته علناً، ناقداً لتجربته، لكنه أبقى على أمرين. الأول انتماءه العقائدي إذ إن القومي السوري لا يخرج من عقيدته إلا بالوفاة. بعد أن وجد نفسه ناشطاً في حزب يميني حديدي النظام، بينما طليعته ومهنته هي الدفاع عن الحريات السياسية وتعدد الآراء في لبنان أولاً وما تيسر من العالم العربي. الثاني هو الحدة في الصياغة والقول التي أدخلته إلى السجن ثلاث مرات. الأولى دفاعاً عن زعيم حزبه انطوان سعادة، والثانية بسبب مقال ثوري، والثالثة لمواجهته سياسة الرئيس سليمان فرنجية.

ظهر التزام غسان تويني النهائي في الدفاع عن الحريات وأولها حرية الصحافة «العامة» في التعبير عن مشاعر الجمهور الأوسع من الناس.

وظهر هذا تحديداً في مواجهته السياسية للرئيس فرنجية الذي ترشح من مكتب تويني. وخاضت (النهار) معركته ليفوز بصوت واحد على منافسه الياس سركيس مرشح الشهابية العسكرية. فإذا (بالنهار) لا تهادنه رئيساً حين يخطىء. إلى الدبلوماسية، أخذ معه غسان تويني حضوره الطاغي في الإعلام، فتحوّلت المهمة التي كلف بها في الأمم المتحدة، تحوّلت إلى قضية وطنية. استطاع تويني أن يثبت أن سفيراً لبلد صغير مثل لبنان يمكن أن يلعب دور الشريك الأساسي واللامع في صياغة قرارات دولية، أهمها ما فاخر دائماً بتحقيقه أي القرار 425، الذي انتزعه من مجلس الأمن الدولي أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982. ولم ينفذ - ولو منقوصاً ومن جانب واحد - إلا في العام 2000 حين انسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان.

جعل تويني من تمثيل لبنان في المحافل الدولية، مهمة وطنية تساوي في حجمها وقدرتها، حجم هيئة سياسية كبرى أكان اسمها مجلس الوزراء في بلاده أو حزب سياسي كبير ومنتشر على كل الأراضي اللبنانية.

لم تشفع له هذه النجاحات في مهنته ودوره، في الخلاص من الضعف تجاه الأدوار التنفيذية السياسية. وهو ضعف ورثه عن والده الذي توفي وزيراً وأورثه نجله جبران الذي استشهد نائباً. تأخر كثيراً حتى اعترف بأن (اختيار الصحافي للوزارة اختيار فاشل) حسب تعبيره. أخذ معه حالة التمرد التي تسكنه إلى وزارة التربية التي تولاها فعانى الفرق بين نصرة قضية الطلاب وبين الحوار معهم من موقع الوزارة. استقال دون أن يحقق غايته، وهي قدرة الصحافي على إدارة الدولة، التي يباهي حين يكتب مقالا أنه قادر على التأثير في سياستها.

فشل غسان تويني في التخلص من الصحافي الناجح في شخصه والأرجح أنه لم يرد أن يفعل في المواقع الرسمية التي شغلها. احتفظ دائماً بعينه الناقدة، وحدّة تعابيره، والقدرة على الخلاف حول كل الموضوعات، فوجد نفسه في السياسة التنفيذية طائراً يغرّد خارج سربه.

حداثة في الصحافة حتى ولو كانت الكنيسة الأرثوذكسية شريكاً في المؤسسة. وطنية في الدبلوماسية حتى لو جعل الوطن ينقسم حول دوره. العقل الصحافي المستقل في الإدارة التنفيذية للدولة. هل تختصر غسان تويني هذه العناوين؟

بالطبع لا. إذ ليس فيها جديد. ما لا يعرفه عنه الكثيرون أنه آخر ورثة عقل الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية في لبنان من المدنيين. باعتبار أن المطران جورج خضر لا يقبل منافساً له من اللبنانيين في تمثيل عقل الإمبراطورية القديمة. خاصةً وأن ممثلها في سورية بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس اغناطيوس الرابع هزيم. هو زميل تويني في الدراسة والصديق الدائم له.

ليس في انتماء تويني البيزنطي تخلّ عن عروبته ولا لبنانيته، بل بالعكس هو أخذ من الإمبراطورية تقاليدها وعنفوانها ليعلن مع زملائه في الإرث الإمبراطوري، أن الوجود في المنطقة العربية متأخر ولاحق لوجود الروم الغساسنة فيها.

هذه النزعة الإمبراطورية سهّلت لغسان تويني أن يكون في عداد بناة الصيغة اللبنانية حيثما حلّ، ولو بقي وحده. إذ إن اللبنانيين لا يتحمسون في معظم الأحيان للمعارك في سبيل الديمقراطية والحداثة والدولة الجامعة. لم يتعلّموا من التجارب أن الحروب التي عرفوها وتعودوا عليها لا تربح بل تحقق لهم خسائر متكررة. لذلك لم يتحزّب له اللبنانيون إلا في مأساته الشخصية المتوالية في خسارة ابنته الوحيدة ونجله الأوسط ثم نجله الأكبر اغتيالاً.

حين تدخل إلى منطقة رأس بيروت تجد فيها علامات المدينة، جامعة، مستشفى، أسلوب حديث في الحياة، أضاف إليها غسان تويني (النهار) صحيفة حديثة صباح كل يوم، فأصبحت العلامة الأبرز لتقدم الحياة في مدينته. هذا قبل أن تنتقل الصحيفة إلى وسط المدينة فتصبح الجغرافيا هناك قبل (النهار) أو بعدها.

هذا هو غسان تويني؟ ربما أكثر.

* إعلامي وأديب لبناني


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة