Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

غسان تويني كما عرفته
باتريك سيل*

 

 

حين كنت أعيش في بيروت، في ستينيات القرن العشرين، كنت أعي جيداً، مثل غيري من الصحفيين الأجانب، ذلك الحضور الطاغي لغسان تويني في الطابق التاسع من مبنى النهار القديم في الحمرا، قبالة وزارة الإعلام. فافتتاحياته، المكتوبة بأسلوبه العربي الغنيّ، المشغول، والذي يمكنك أن تميّزه مباشرةً، لم يكن من الممكن تجاهلها قطّ. فقد كانت مقياساً للتفكير المتحضّر في تلك المدينة.

في الطابق السادس من ذلك المبنى ذاته كان مكتب ميشيل أبو جودة، معلّق النهار الرئيس اللامع وصاحب المزاج الحاد، الذي كان يجلس وراء مكتبه فيما لا يمكن وصفه إلا بأنه نوعٌ من العرش، وكان أسلوبه في الكتابة - ذلك الأسلوب البسيط، اللاذع، ذو الجمل القصيرة - معاكساً تماماً لأسلوب رئيس التحرير الجالس في طابق أعلى من المبنى.

وإذا ما كان لدى غسان تويني شغف أو هوىً بشيء محدد - وهو كذلك فعلاً - فإن هذا الشيء هو حرية التعبير. فقد فهم أفضل من معظم معاصريه أنه من غير حرية الصحافة لا يمكن أن يكون هنالك أيّ مظهر من مظاهر الديمقراطية، وهي قناعة جرّت عليه عدداً من الأحكام بالسجن. فهو لم يدّخر أيّ قدر من السخط حين تمت المسارعة إلى إعدام أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، بعد محاكمة ليلية مقتضبة؛ وحين عمد الرئيس فؤاد شهاب، قائد الجيش السابق، إلى منح المكتب الثاني سلطات مفرطة تتيح التدخل في الحياة المدنية؛ وحين تدهور التسلط السوري المفرط على لبنان إلى ضَرْبٍ من الإجرام. فالحكم السلطوي، مهما كانت طبيعته، كان عدوّه على الدوام.

والحرية مبدأ كان يطبقه في صحيفته الخاصة، فيحتفي بوجهات النظر المتباينة، من داخل الجريدة وخارجها، في صفحةٍ جديدة خاصة - أوجدها في العام 1970 على ما أذكر- وكانت الأولى من نوعها في الصحافة اللبنانية. وكما قال لي زملاؤه، فإنه كان يتقبّل النقد، ويبدي انفتاحاً حيال الأفكار، ويروقه قول الحقيقة، ويحب أن يقوم بدور الحكم بين عناصر فريق العمل في اجتماعات رؤوساء الأقسام التي كانت تُعقد في الساعة الخامسة بعد الظهر من كل يوم في مكتبه. ولا بدّ بالفعل من اعتباره واحداً من الذين أوجدوا الصحافة العربية الحديثة إلى جانب صحفيين بارزين إلى أبعد حدّ مثل مواطنه كمال مروة الذي اغتيل برصاصةٍ غادرة، والمصري أحمد بهاء الدين.

حين ترك غسان تويني دراسته الجامعية في هارفرد لكي يتولى مسؤولية النهار بعد وفاة والده في العام 1947، قرر، كما قال لي مرة، أن يمرّن يده على كل عمل من أعمال الجريدة، بحيث يفهمها جميعاً. وهذا ما مكّنه من أن يشهد، كمراسل أجنبي، استيلاء إسرائيل على القدس في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948. وفي لحظة من لحظات ذلك القتال، وجد نفسه على سطح أحد البيوت، جنباً إلى جنب مع مراسل أميركي لليونايتد برس. وحين رفع زميله رأسه أعلى من حاجز السطح أَرْدَته رصاصة قنّاص وسط جبهته. وبحكمةٍ، أبقى غسان رأسه منخفضاً.

ولم يكن هذا بالشيء الذي لن يكرره قطّ في مسيرته الطويلة والمميّزة كمحرّر، أو وزير، أو سفير لبلاده. وعلى نحوٍ ما، فقد كان على الدوام أكثر بكثير من محرّر صحفي محلي. ولعل أصوله الأرثوذكسية الشرقية هي التي جعلته أشدّ انفتاحاً على العالم العربي الواسع من معظم الموارنة في جيله. وكان تعليمه، وفضوله الفكري، وقراءاته الواسعة وتضلّعه الكامل من الإنجليزية والفرنسية، فضلاً عن العربية، قد أتاح له أن يغدو هائل الثقافة وواسع الاطلاع، مع شغف فعلي ليس بالتاريخ والشؤون الدولية وحسب، بل بالأدب والشعر أيضاً.

ويمكن أن نشير أيضاً إلى كونه رجلاً ذا إيمان عميق، الأمر الذي لا شكّ أنه قد أتاح له أن يواجه بنوع من الرواقية (الجَلَد والصبر) وقَدْرٍ كبير من الكرامة كثيراً من المآسي الشخصية التي وَسَمَتْ حياته، وكان آخرها في كانون الأول 2005، مع اغتيال ابنه جبران، خليفته في رئاسة تحرير النهار. فحين جاء أصدقاؤه ومعجبيه لمشاطرته الأحزان هو الذي راح يواسيهم.

ولعلّ أرقى لحظاته تلك التي نطق فيها بكلمات المصالحة، أثناء تأبين ابنه في الكنيسة الأرثوذكسية خلف مبنى النهار الجديد، وحثّ الأفرقاء اللبنانيين المتحاربين على أن يدفنوا ما يكنّونه من انعدام الثقة، وأن يضعوا حدّاً لسفك الدماء ويطووا الصفحة. وهي نصيحة لا يزال عليهم أن يصيخوا السمع إليها.

* صحافي بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة