Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

وطن في رجل
د. محمد عبدالمطلب الهوني*

 

 

توالت عليه النكبات.. فقبر أعزّ الناس بيديه، وكأنه يحتضنهم بين ضلوعه.

لا نعرف مقدار الألم الذي ألمّ به.. إذا كان مقياس البرحاء دموع مستعصية على السّقوط.

ذلك المزيج الجميل من جِلاد الفارس وتسامح النّبيل وأحلام الشّاعر هو غسّان.

ترى وجهه الصّارم الذي يخفي قلبا يخفق بالحبّ، وتنبهر بتضاريسه العجيبة، وكأنه شجرة معروقة بفعل القرون، ترى تلك الوديان التي حفرتها في جبهته عوامل التّستّر على كلّ الفواجع التي لحقته بفعل زمن الخذلان وعقود الأحقاد.

بماذا يحلم هذا الشّاعر الفارس النّبيل؟ إنّه يحلم بوطن ككلّ الأوطان من أجمل الأوطان، فهل من جريمة أن يحلم الإنسان بوطن؟ إنّهم لم يدينوه أو يعاقبوه على الحلم بالوطن.. إذا كان هذا الوطن لكلّ عصابة فيه حقّ البيع والشّفعة والتّاجر.. إنّهم عاقبوه على مفهوم الوطن عنده. ذلك الوطن الذي تنصهر فيه المواطنة بإكسير الحبّ، فيغدو وطنا للبحر والأرز وأعمدة بعلبك الخالدة.

إنّهم عاقبوه لرفضه أن يكون الوطن شقّة مفروشة يلجها القراصنة وبائعات الهوى.

إنّهم حاقدون عليه لأنّه حالم بوطن لا يدافع عن مستعبديه وغزاته ولا يكيل المديح والثّناء لجلاّديه ومخرّبيه آناء اللّيل وأطراف النّهار.

في هذا الزّمن العجيب المكتظّ بإيديولوجيّات الكراهية، ممنوع فيه أن تحلم بالتّسامح، ممنوع فيه أن تكون إنساناً يفكّر خارج الإطار الذي حدّده شيخ القبيلة أو أمير الطّائفة، أو سدنة المذهب.. أي أن تحلم بأن تكون إنسانا فردا. فهذا يعني أن تكون من الخلعاء مهدور الدّم ملاحقا باللّعنات.. أن ترى الوطن أكبر من الطّائفة أو المذهب أو القبيلة، فتلك خطيئة لن تغتفر حتّى وإن سفكوا دمك ودماء أبنائك على أرصفة مدينتك المخرّبة.

يا لهذا الزّمن القبيح الذي يصبغ بدمامته كلّ شيء جميل!!

ألم يكن لبنان ذلك الشّيء الجميل؟ تلك الفسيفساء التي رصّعتها الأصابع المقدّسة في الأسطور وشوّهتها أيدي الشّياطين التي تستفزّها رؤية الأشياء المتناغمة؟

لبنان الذي حمل مشعل الحضارة في أزمان سحيقة غابرة، ها هو اليوم يجبر على التّنكّر لأجداده الفينيقيّين ليتبنّاه رهط من الرّعاة، ليست لهم في التّاريخ غير سمعة سفك الدّماء، وتحقير الحياة، وإعلان الحرب على الحقّ والخير والجمال..

لبنان كان في جماله وتناغمه ينبع من احترام كل الأسطورة التي وجدت دوما مكانا لها في مقره المهيب.

أمّا اليوم فإنّ مأساة لبنان تتأتى من خروج أحد ما عن صوابه بادّعائه ملكيّة كلّ المقر وإعلانه الحرب على جميع الوطن . هذا ال عبوس مكفهرّ، ليس في طقوسه غير الحرب والدّمار.

إنّه يتلذّذ برائحة الشّواء البشريّ.

وبالرّغم من كلّ هذا، فإنّ لبنان سيحقّق المعجزة ككل الأساطير الكبيرة على مرّ الدّهور، وستخلّق من غلالة العبث المهيمن عليه قائمة أقوى وأجمل من تلك التي نهبت منه.

عندما يتماثل لبنان للشّفاء من الفوضى، فلا خوف عليه من استرداد صورته الأولى، وذلك باستنساخ مخلوقه الجميل، صحيفة النّهار التي حافظت برغم المحن والأهوال على صورة لبنان المصغر الجميل، بتسامحه وكبريائه، واتّساعه لكلّ مكوّناته التي تعبّر عن نفسها وتبدع من أجل الخير المشترك.

ما دام لواء الأرز لا يزال شمس النّهار، فإنّ كلّ الأعلام الهمجيّة سوف تخبو وتنكّس ذات يوم.

عذرا.. أدبّج هذا النّصّ لمن؟ أللبنان أم لغسّان تويني؟ وهل ثمّة فرق عندما يتجسّد الوطن في رجل عظيم؟

*أديب ليبي - يقيم في جنيف


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة