Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

غسان تويني
أعوامه المعارضة تفوق أيام المعارضين مجموعة
نايلة جبران تويني*

 

 

غسان تويني، جدي، ووالد والدي، وفي أساس تكويني ووجودي. ماذا عساي أقول فيه وعنه، فإذا مدحته قالوا هذا جدها، وإذا حاولت نقض بعض مواقفه في السياسة، لقالوا إنها تفتش عن إثبات نفسها، وعن مكانة لها في قلب التاريخ الكبير المسمى غسان تويني. لذا، فإني أنا الحفيدة أجد الصعوبة البالغة، والأبلغ لدى كل المشاركين في هذا الملف، في الكتابة عن غسان تويني. فأنا لا أنظر إلى الأستاذ، دولة الرئيس النائب والوزير، والسفير والمستشار والمبعوث، وما إلى ذلك من ألقاب حملها في مسيرته الطويلة، لأنه بكل بساطة جدي الذي تفتحت عيناي عليه في المنزل الوالدي. أنا الفتاة الصغيرة التي حملت اسم ابنته التي أحب كثيراً، والتي رحلت في سن مبكرة، وهي البرعم الذي لم يتفتح على الحياة الواسعة التي حملت لنا في العائلة، الكثير من الآلام. ولعل أبرزها حلّ بجدي غسان الذي عاش كل أزمات العائلة الصغيرة، والعائلة الكبيرة أي الوطن، وطن الأرز، وثورة الأرز، وطن النكبات، ووطن (العصفورية الدستورية)كما سماه أخيراً.

أنا الفتاة الصغيرة التي أجلسها إلى مكتبه الخشبي، ممهداً لي الطريق لخوض غمار مهنة المتاعب، وقد قبلها والدي جبران من قبلي، كأننا من جبران إلى غسان فجبران، أدْمنّا هذه المهنة - الرسالة.

أتحدث عن غسان تويني الإنسان، الذي بذل الكثير، ولو على حساب حياة عائلته، من أجل (النهار)، نهار لبنان، نهار قيم العيش الواحد، نهار الوحدة الوطنية، إذ ربط دوماً بين لبنان و(النهار)، فلا وطن لا يطلع نهاره، كل يوم، كل صباح. ولا وطن لا يصيح ديكه الأزرق للحرية والديموقراطية والانفتاح، للحوار، (حوار الحضارات وحوار الأديان الذي يحتاج إلى ثورة ثقافية بين المتحاورين)، حوار يقود إلى الحرية، حرية لبنان والإنسان فيه، حرية القدس (مدينة الله) كما سماها جدي، (المنفتحة على احترام الأديان بعضها لبعض، بدل أن تستمر حصن الأحقاد المتفجرة حرائق إرهاب متعدد البعد والمنطلق).

ماذا أقول في غسان تويني، المتشدد في الطريق القويم، في عمله وحياته، هو الذي جعله إيمانه القوي، يقبل نكبات الزمن، هو الذي قال (جبران لم يمت، والنهار مستمرة) في إشارة إلى الحياة، هو الذي دعا، واقفاً أمام نعش والدي ونجله، إلى المسامحة، بل إلى الغفران، وهو النوع الأصعب. دعا إلى فتح صفحة جديدة لإنقاذ الوطن، حتى لا تتحول الشهادات هباء. غسان تويني الذي تقبل الموت، ولو مكرهاً، آمن بالسماء، حيث يلتقي الأخيار بربهم، رب الحياة والقيامة، رب الحب اللا متناهي.

هل أتحدث عن ليل غسان تويني الطويل، المظلم في بعض جنباته، حيث يعود فيه إلى هناته، إلى ضعفه البشري يتذكر الأحبة الذين افتقدهم، فيلجأ إلينا، بل إلى أختي الصغيرتين، فهما ترمزان أكثر إلى الحياة الجديدة، إلى تفتح الورود. وإذا وجد أن الوقت بات متأخراً أو بالأحرى بلغ الصبح، عاجل ضعفه بقراءات وكتابات، ليست هروباً، بل إشباعاً لذات أدمنت الثقافة، وكانت في كل مرة تستزيد طلباً للامتلاء، حتى إذا ما فاضت تغطي جوانب في فراغ قاس ومدمر، لا نعترف نحن، ولا جدي بوجوده، لأن إيماننا الواعي، وإرادتنا اللا واعية، يرفضان الاستسلام، يرفضان الخضوع، يرفضان الانحدار والانزلاق إلى ما يريده لنا الآخرون، وأي آخرين هم أولئك، هم حفنة أناس افتقدوا الحب في حياتهم، فأرادوا كمن ينتقم ليباسه، أن يحرق الأخضر، والذهبي المضيء في سهول القمح.

غسان تويني لم يعرف كيف يحب وطنه، بل كيف يخدمه، على طريقته الخاصة، فلم يكتف بالسياسة، وبالصحافة، وهو الذي يكرر دوماً لزميلات إعلاميات يسألنه عن أوضاع السياسة ومجلس النواب (أنا صحافي أولاً، اسألنني عن معلوماتي كصحافي). لم يكتف بالديبلوماسية سفيراً للبنان لدى الأمم المتحدة ووالد القرار 425 ، ولم يكتف بالتأليف والكتابة، بل أراد من خلال (دار النهار للنشر) أن يحفظ تاريخ لبنان، ولم يجعل من الدار مؤسسة للنشر ناجحة مالياً، إذ لم يهتم لهدف تجاري تسويقي، بل كان جلّ همه أن يجعل التحاور بين اللبنانيين وسيلة حضارية عصرية، الكتاب سبيلها، والورقة مسرحها، والقلم لا الرصاص وسيلتها.

وفضلاً عن الكتاب الذي لم يتمكن من خلاله، من جمع كل المواهب، كان عمله في متحف سرسق، للتعامل مع فنانين أمسكوا القلم والريشة، وعبَّروا بطريقة مختلفة، وكان عمله في المتحف الوطني، مساعداً في حفظ التاريخ القديم، الذي لولاه لا ذاكرة للشعوب. لجان وجمعيات كثيرة انضم إليها غسان تويني، لا حباً بلقب جديد، ولا طلباً لمنفعة مادية لم تتحقق يوماً، بل حباً بلبنان.

ولعل من المفيد أن استعير مما قاله رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دو فيلبان عن غسان تويني مكرماً من الحكومة الفرنسية عام 2005 وقبل يومين من اغتيال والدي، إذ لخص مسيرته لأكثر من نصف قرن، فتكون شهادة ضمنها دو فيلبان ما نقر به جميعاً:

أعلق على هذا الحفل أهمية خاصة لأنه يتيح لي أن أكرّم إنساناً، كاتباً وصحافياً لم يتوقف لحظة عن المشاركة بكل اقتناع وحماسة في حوارات هذا العصر. إنه مثقف لبناني عظيم.

إن كلماتك تعكس صورتك، صورة رجل لطالما التزم بحماسة خدمة الآخر، مهما يكن الثمن ومهما تكن العواقب. كلنا يعرف الصراعات التي خضتها والقضايا التي آمنت بها والرجال والنساء الذين دافعت عنهم باسم العدالة. كلنا يعرف بأي حدة تكافح يومياً باسم الحوار والحرية. في عملك كصحافي، لم تتوقف يوماً عن الدفاع عن هذه القيم. والدك جبران تويني أرشدك إلى الطريق، فهو أسس جريدة (الأحرار) ومن بعدها جريدة (النهار) التي تحولت بسرعة مرجعاً مهماً في العالم العربي.

لم يتردد يوماً في التطرق إلى موضوعات جديدة، استطاع أن يُدخل إلى الصحافة اللبنانية نفحة حرية وحداثة.

لقد ورثتَ عنه رسالة، إلا وهي رسالة الكتابة والصحافة. وعندما توفي عام 1948، حملتَ بدورك الشعلة فأصبحت رئيس تحرير جريدة (النهار). ورثتَ عن أبيك كذلك مقومات الصحافي الناجح، وهي روح الاستقلالية والجسارة وحس النقد. حوّلت هذه المقومات قوة، ونمّيتها لخدمة موهبة عظيمة، ذلك لاقتناعك أن الصحافة ليست وظيفة كغيرها من الوظائف، بل مهمة حقيقية في خدمة حقيقة الوقائع وحرية المعتقد.

لطالما حرصتَ على تشريع أبواب جريدة (النهار) أمام كل الأفكار والآراء، وكذلك فعلت بالنسبة إلى الصحيفة الفرنكوفونية (لوريان لو جور)، ولطالما فضلتَ التعددية على المدافعة عن حزب أو رأي واحد. ولّد لك هذا الصراع اليومي أعداء، كما أدى إلى سجنك، غير أن شجاعتك وإنسانيتك ربحتا المعركة ضد الخوف والحقد والتهديد. أنت تقول: (علينا أن نتعلم كيف نمشي إلى جانب الموت ونسكن ذاكرته لكي ننجو يومياً من الاغتيال فننتظره من دون خوف ومن دون ملامة).

لقد حوّلتَ جريدة (النهار) أحد رموز الديموقراطية اللبنانية، فهذه الجريدة هي أولاً رمز قدرة لبنان على أن يكون وطناً لطوائف متعددة. وخلال الحرب اللبنانية، فيما كان العنف والفظاعة يعصفان بلبنان فتعلو أصوات القذائف والمدافع، كنتَ تدعو الجميع إلى التوافق والتحاور، إذ (لا خيار إلا الحوار) بالنسبة إليك، وخصوصاً الحوار الصريح والنقدي، أي حوار الحقيقة.

منذ ستين عاماً وأنت تنقل صباح كل اثنين رسالة التبادل والتسامح هذه. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، في عالم يميل نحو التقوقع واللا مبالاة، تحتاج كل الضمائر إلى رسالة الاحترام هذه. لقد دافعتَ عن الحرية والحوار من خلال التزامك السياسي، وفي قلب هذا الالتزام، هناك حبّك الهائل لأرضك لبنان. لقد أديت دوراً أساسياً في الحياة السياسية اللبنانية، دفاعاً عن استقلال بلدك وسيادته ووحدته، لأنك، وإن كنت تقول إن (عدد أعوامك كمعارض يفوق عدد أعوام معارضة كل المعارضين مجموعة)...

* المدير العام المساعد لمؤسسة النهار


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة