Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

الإنسان المُختمر
عبدالعزيز بن محي الدين خوجة*

 

 

لعالم الأستاذ الكبير غسان تويني مداخلُ رحبةٌ كثيرة، من الدبلوماسية إلى السياسة إلى الفكر والأدب والشعر والثقافة الشاملة، تؤدي كلها إلى جوهر واحد يكدّس فيه كل معارفه واطلاعاته وخبرته وهو جوهر غسان تويني (الإنسان والصحافي) بامتياز الذي عشق الصحافة حتى الذوبان فذاب في جريدة (النهار) وذابت به فأتمنها على أفكاره وكل ما يختزنه وجعلها ساحة نضاله وفرحه وحزنه وفي المختصر ألف باء حياته حتى بات من الصعب لنا أن نقرأ (النهار) ولا نشتّم عبق غسان تويني أو أن نراه دون أن تكون (النهار) عروس الحديث الذي نتلذذ بتبادله معه.

جاء غسان تويني إلى السياسة من الفكر غير لاهث وراء منصب فأعطى مع رجالات كبار خلال الحقبة الماضية نكهة خاصة للإدارة في لبنان ولموقع المسؤولية أساسها الممارسة المتزنة التي تنشد الرقي والتطور، وحين كان مندوباً دائماً للبنان في الأمم المتحدة قام بدور على مستوى (اللبننة) كوجود لا كمساحة جغرافية في وسط دبلوماسي تلتقي فيه سياسات العالم كله.

ولم ينقطع غسان تويني عن أن يكون دوماً ابن الصحافة، ولا بد أن يعود في آخر نهاره إلى (النهار) وإن كان بعيداً عنها، فكان يخبئ كل ما يُدركه لأجل المهنة - الرسالة التي أرادها في سبيل وطنه ومحيطه القومي، وقد سمعت من مقرّبين منه أنه كان ولا يزال يقرأ (النهار) من صفحتها الأولى إلى الأخيرة وحتى الإعلانات لشغفه بها وحرصه على محتواها وأهدافها.

وغسان، إنسان كبير بكل ما لصفة الإنسانية من معنى وقد زيّن إنسانيته بإيمان عميق بالله عز وجل وانفتاح على مختلف الأديان انطلاقاً من الأخوة في الإنسانية وحاول أن يعمم فكره هذا في لبنان بالدعوة للارتقاء إلى ما فوق العنعنات الطائفية الضيقة إلى مصاف الانتماء الوطني الموحّد الذي يليق بلبنان كحضارة وشعب.

كذلك فهو لم يفصل إنسانيته عن كتاباته السياسية وإن كانت متقدمة في هذا المجال إلى حد كبير حتى أصبحت في كثير من الأحيان بوصلة تحدد الوجهة السياسية للبلد وأحداثه أو لحركة السياسيين فيه، وكان ولا يزال ينطلق في كل ذلك من نزعة إنسانية خالصة قبل كل شيء لا تسعى إلى تحقيق انتصار أو التلذذ بهزيمة ولكن غايتها الخير العام ومصلحة الإنسان كإنسان لا كفئة سياسية أو عقائدية.

إنه الكاتب الراقي الذي لا تبدّل أفكاره ريح تهب من هنا أو هناك والصحافي الثابت الذي لا يسعى إلى مديح أو إطراء إرضاءً لجهة على حساب أخرى، أنه من قامة الكتّاب الكبار الذين طوّروا المجتمعات واتخذوا من الصحافة منبراً لنشر الفكر والتوجيه الصادق، وهو من قامة هذا المقام عن جدارة واستحقاق.

طوّف غسان تويني بعيداً وكثيراً في الدنيا فنسج علاقات عديدة على مستويات عليا وامتلأ من ثقافات الشعوب والأمم فما زاده ذلك إلا تواضعاً والتصاقاً بالأرض ودفقاً في الكلام الزاهي. وحين قسا عليه القدر عدة مرات كان يزداد اختماراً وتمسكاً بحبل الله وهما عنوانا الحكمة ورجاحة العقل.

قد لا تفي كلماتنا غسان تويني قدره وحقه لكنه يعلم أن حبنا له أكبر، فهو ليس علماً من أعلام لبنان فحسب بل من أعلام العالم العربي، وهو بكل ما يقوم به، يقدّم للعالم صورة ناصعة راقية عن الإنسان العربي الأصيل.

* سفير المملكة العربية السعودية لدى الجمهورية اللبنانية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة