Culture Magazine Monday  02/06/2008 G Issue 250
قراءات
الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1429   العدد  250
 

أدب.. سياسة.. تحت أمرك!
خالد البسام

 

 

اتصلت بأديب عربي كبير أيام بداياتي الصحافية، وأخبرته عن نيتي في إجراء حوار معه حول رواياته وقصصه والأدب عموماً. لكني فوجئت بالرجل على الهاتف يقول لي وبحماس شديد: أدب.. تاريخ.. سياسة، أي حاجة.. أنا تحت أمرك!

في البداية فهمت الرجل أنه يقصد مجاملتي وأن الذوق يقتضي منه أن يقول هذا الكلام (اللطيف)! أو أن الترحاب بي أو بغيري من الصحفيين يتطلب ذلك.

لكن عندما ذهبت إلى الأديب في مكتبه وقبل بدء الحوار كرر علي نفس الكلام. وقال إنه لا يوجد عنده مانع في الحديث في تلك الموضوعات لأنه (أديب كبير، والناس ستسمع كلامه وتصدقه وهذا فخر واعتزاز له)!

عندما اكتمل الحوار الأدبي، دخل علينا سكرتيره وقال له إن الصحافية من جريدة سياسية تود مقابلته. في الحال نهضت وقمت بمصافحته وقال لي وهو يسلم علي بحرارة: بدأت معاك في الأدب والآن عندي سياسة، ولا أدرى بعد ذلك ماذا سيكون قبل خروجي إلى البيت.

ومثل هذه الحكاية الصغيرة يمكن أن نجد مثلها حكايات أكبر وأكثر تحدث المفاجآت أحياناً ولا تثير الدهشة أحيانا أخرى!

اليوم يمكن أن نفتح التلفزيون ونشاهد روائيا كبيرا يتحدث عن المفاعل النووي الإيراني، ويشرح مع متحدثين آخرين تأثير المفاعل على البيئة والمناخ!

وتفتح فضائية أخرى وتجد ناقدا أدبيا شهيرا يجيب بحماس عن رأيه في الطعام المكسيكي وأطباق شرق آسيا وغير ذلك.

لا أظن أن تلك المشاهد صارت غريبة على الناس، ولا أعتقد أن أحدا بمن فيهم المثقفون يبدون استغراباً كثيراً على الوضع العجيب.

في هذه الظاهرة العربية الفريدة يتصور المثقف عندنا أنه إذا أصبح مثقفا وحصل على شهادة دكتوراه في مجال ما، فإن له الحق أن يفتي في كل شيء، وأن يقول رأيه حتى ولو لم يسأل في كل شيء، ويغامر أحيانا ويكتب شعرا وقصة ورواية وكتابا في النقد، ويبدي رأيه في الموسيقي، ويظهر للناس وكأنه الفاهم الوحيد في الدنيا، هو الموسوعة الشامة، هو (جوجل) عصره وفريد زمانه.

التنوع ليس عيبا، ولا كذلك أن تهبط على الإنسان وبخاصة إذا كان مثقفا مواهب كثيرة، لكن هل كل هذه المواهب يحتاجها هو أو حتى يحتاجها مجتمعه؟ ثم أليس لكل موهبة حاجات لكي تصقل ويعطي لها وقتا وجهدا وتخصصا في النهاية؟

أكثر ما يعيب على الكثير من المثقفين عندنا هو اعتبارهم الكتابة، والكتابة بالذات، هي جزء من عملهم، ودقائق قليلة من ساعات يومهم. والأهم أنها لا تحتاج إلى إخلاصهم وحبهم الشديد.

لا أعرف لماذا الكتابة بالذات هي العملية الوحيدة التي لا تستحق منا الإخلاص وتلك المحبة والساعات الجميلة التي تحتاج أن نقضيها معها؟

يمكن الإجابة بتلك التنوعات الغريبة والفريدة من نوعها التي تحدثنا عنها سابقا والتي تشغل بال الكاتب وتبعده عن التوحد مع مهنته وعشقه.

قرأت مرة لكاتب غربي يقول: (إن الإخلاص للكتابة لا يشبه الإخلاص الزوجي. بل إن الإخلاص لها يتطلب أكثر من ذلك).

لكن أرجو ألا يفهمني أحد على أنني أتكلم عن أن الكاتب يجب ألا يأكل ولا يشرب ولا يعيش إلا مع الكتابة، ولا يفعل شيئا سوى الكتابة.

هذا الكلام هراء ببساطة شديدة. فالإخلاص للكتابة يعني المحبة وعدم المفاضلة معها وأشياء أخرى، وكذلك عدم إشراك تنوعات حتى ولو كانت شبيهة بها.

بالمقابل هناك كتاب، وأغلبهم مع الأسف غربيون، يمارسون هوايات كثيرة وجميلة، وبعضها تغني عملهم الكتابي والذهني وترفده بطاقات عظيمة.

ما أكثر السياسيين في العالم الغربي الذين يحبون الموسيقي ويعزفون بعض آلاتها الجميلة. ولكن هذا يعتبر هواية وليس اختصاصا. فعندما يسأل رئيس وزراء مثلاً عن هوايته في اللعب بالبيانو يتحدث عنها بعذوبة وعن شيء يحبه، لكنه لا يتكلم وكأنه بيتهوفن زمانه كما يفعل العرب عادة حينما يشعر المشاهد بأنه أحسن عازف في العالم.

أظن أن العزف على سطور الكتابة هو الأجمل، لكن التنطيط في كل مكان وإظهار عضلات المثقف وكأنه العبقري الوحيد في الدنيا لن يخسره سوى نفسه وموهبته.

- البحرين


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة