Culture Magazine Monday  02/06/2008 G Issue 250
مراجعات
الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1429   العدد  250
 

استراحة داخل صومعة الفكر
الأمل الهامس منصور دماس
سعد البواردي

 

 

أيا كان الأمس هامساً أو ملامسا خلجاته النفس في قوة أن يدفعها نحو يقين الحياة كاشفا لها متاهات الدرب، وصبابات الحب.. به تستبطن مشارف مستقبل يحتاج إلى شمعة.. وبه تسبيان ملامح حب حائر بين ابتسامة ودمعة.. وهكذا يبدو جاءت البداية لإطلالة شاعرنا عبر نافذة حب هاجسها الأمل في أن يكون بلا شكوى:

تأرب القلب في دنياك فاتئدي

لو ينضب الحب حاشى دفقك الأبدي

أهواكِ، أهواكِ بشدو خافقي ودمي

وأنت تجرين ما احلاك في خلدي

فلتسكني داخلي.. نبضي.. ومخيلتي

ولترقصي جنة غناء.. يا بلدي

أن الرغيد بلا رؤياكِ ليس له

عندي مذاق ولو فيكِ التقى رغدي

إنه الحب الكبير الذي يتضاءل أمامه أي حب.. حب وطن.. وحب الوطن من الإيمان..

أهواكِ يا بلدي.. أهواك يا بلدي

أهواكِ حتى تروح الروح من جسدي

إذ أنتِ دنيا تخط الشمس سيرتها

مذ ذاع طه كلام المفرد الصمد

بهذا الإيقاع وأكثر صاغ لها قصيدة انتماء لتراب وتراث هو منه وإليه.. صاغه شعرا جميلا طويل النفس هذه البعض من مقاطعه.. تغنى لعروسة البحر جدة.. وتغنى للرياض.. وأخذت القافلة والقافية معه إلى (تهامة)

يا معيبا إقامتي في تهامه

هل عرفت الهوى؟ أذقت ضرامه

سائل النفس هل تمل محبا

مازح الدم؟ أو تطيق انفصامه؟

هام قلبي فلو بقلبك بعض

من رؤى ما بها عذرت هيامه

عش هنيئا بما ألفت ودعني

فالتهامي هناؤه في تهامه

مسقط رأسه.. وذكريات أمسه.. وأيام أنسه كلها تجتذبها إليه في حب لا يساوم ولا يقاوم.. وهذا من حقه.

خفف اللوم يا عذولا بحب

هو نبضي ودورتي والسلامه

إن أكن شارخا فكنت رضيعا

ثم طفلا قد شد فيه حزامه

أترى يجمل التنكر مثلي؟

أيخون اللبيب فيكم إدامه؟!

ومن تهامة إلى اليمامة يمتد رواق حبه

لبلادي منازل في كياني

من مقامي إلى أقاصي اليمامه

ومن حب الوطن إلى حب الهوى:

للحب -يا حسنا صبا- مقلة

شمسية المرمى وخد أصيل

وللهوى في طبنا وصفة

اهمالها سخف وهون وويل

يا مرحبا بالعشق إن جاء عن

صفو ومن إخلاص راعي الجميل

حدد مواصفات حبه دون تجاوز:

يا عاشقي واسأل جذور المنى

اترتضي شوب النسيم العليل؟

وهل لفرع فات عن أصله

وشوهته الريح ظل ظليل؟

بهذه التساؤلات مد جسوره.. وعبرت به قافلة حبه إلى من يهوى.. ولكن..!

يا فاتني والحب يتلو لنا

ما يصنع الخل لسعد الخليل

قرأت في عينيكِ - يا للهوى -

صيفا وتمويها ودربا طويل

فهزني الشوق ولكنني

بغير برهان. فهل من دليل؟

ويسدي لها نصيحة:

تُغير الدنيا إذا متعت

أو كشرت والحر فيها أصيل

فاغسل مرام النفس من سمحة

تجد صفاء الحب نعم السبيل

النهاية في قلب الشاعر:

ومن الصدى.. إلى رجع الصدى.. أي من الشجرة إلى فيئها.. ومن الجدول إلى خريره.. ومن المورد إلى عبيره

ما أجمل الحب حين النور يغسله

وسامة ببهاء الحسن تعتمر

حب لشمس صفت في عينه فلق

فلا عثار يعوق الخطو لا حذر!

تخط سيرته الغراء في شفف

يد الثريا. ويروي زهوه القمر!

وينشر الشعر في عينيه نغمته

الأحلى فيدهش من منظومه الدرر!

مجرد خيال شاعري احتمى به من قائظة حبه لعله يطفئ بعضا من لهيب حبه.. علامات التعجب (!) دخيلة لا مكان لها

كبرت في ناظري - افديك - كيف سما

ركاب عشقك لا دحس ولا ختر

كيف انفردت بومض لا يعكره

زيف الأحاسيس لا تخفى به الصور؟

فليس للعذل مرسى في مرافئه

لكنه بسناء منه يندحر

هذا هو الحس نبض كيفما صدرت

انغامه طاب منه الانس والسمر

هكذا استراح تحت ظل شجرة خياله يتفيأ.. يستنشق شيئا عن نسيمها العليل.. كلنا في حاجة إلى أوكسجين أمل نتنفسه في لحظات تأمل قصائد حب شاعرنا دماس يزحم بعض الآخر فمن (تواصل) إلى (وصية محب) إلى (صراع هوى) إلى ألق غرام.. كلها تدور في فلك واحد لا يمله الشعراء رغم جهده واجهاده.. وأحيانا سقمه الذي يحتاج إلى (معالجة هاتفية)

ملك الفكر من ملك من حباني.. ومكَّنك

حين مد الدجى يدا و(قفا) الصبح ودعك

وخطا البدر باسما شأنه يضحك الحلك

نصل ما شاعرنا إلى رنين الهاتف حيث ينتظر العلاج:

هاتفي رن قلت من؟

قال: هل لي أناغيك؟

آه.. إني مقيم

بك فاسمع متيمك!!

يبدو أنه رصد مهاتفة لمحبوبته (هنا) لحظة أن كانت إلى جواره.. لم يطق أن يسمعه:

قلت حسبي فلست لك أن رأى باطلا سلك

رنين هاتف تحول في أذني إلى طنين كاد أن يحجب عنها نافذة السمع.. حاولت الابتعاد عن دوران استكمل وصفة علاجه!!

السهم العائد.. يقول فيها:

من أين أبدأ يا مأساة مأساتي

من مدخل الحب أم من بدء آهاتي؟

من أين أبدأ والماضي على شفتي

إذا زها زاد آهي وانفعالاتي

ماذا أقول وآمالي مشردة

والحرف تؤسره ذكرى معاناتي؟

سرد متواصل تملؤه التساؤلات والآهات كما هي العادة:

يا زائري فجأة من أجل أغنية

في حسنه تحتوي أحلى عباراتي

كما رسمتك وجها غير مكتمل

غدا بغدرك في أقصى نفاياتي

لا وسط في محيط الحب، موج كاسح يرتطم بالصخور يحطم كل شيء معه، أو آخر مسالم يترك للمجاديف أن تتحرك في هدوء.

إني مللتك حتى ريشتي كرهت

فشطبت كل وصف في وريقاتي

حسناً فعل..

الزواج بعد السبعين ماذا يقول شاعرنا عنه؟

خطرت سمراء فيها من رياض الورد حمره

خطفت عقل مسن ينطق الحسرة حثره

دعاها.. انفرجت شفتاها عن ابتسامة ماكرة

جاوز السبعين لكن هام فاستصغر عمره

وتعالى باحثا عن حلوة تؤنس قفره

ساقته قدماه وهو يتوكأ على عصاه

وأتى والدها مرجاه أن يمسي صهره

قال: منك القرب فاز هب ان للعذراء امرة

واذا شيك بكف الكهل ينسي الأب فقره

أمام بارقة الفلوس تضعف النفوس.. وأمام المال تهون عزائم الرجال! لقد حصل على ما يريد.. الخريف حصل عنوة على الربيع..

حوَّل الكهل شبابا يافعا.والشيب سمره

ونفى الشورى وأمست كلمات الرفض مُرَّة

وينتهي بنا المشهد أمام هذين البيتين المعبرين:

رُب عشطان بقرب الماء لم يظفر بقطره

ومديد حلماً ما له بعد الفوت كرَّه

عاد شاعرنا بذاكرته إلى العصر الجالهي.. إلى ربيعة بن حذار المعروف بنقده.. يخاطبه

ابيت اللعن والنقد المذمم

ربيعة فاكتسبت المدح ملجم

وانماط البيان لديك أسرى

لكل فنونه ينهاك معجم

أليس الشعر في دنياك نبضا

شعوريا وأمضاها منغم؟

أليس لعصركم في النقد قوم

إذا لمسوا نوافذه تهدم؟

ألستم مثلنا للنقد فيكم

بيارق شلة بالميل تحكم؟

ليلبس باقر أحلام قس

ويصبح مادر شهما مكرَّم؟

شاعرنا يشكو حال النقد في زمنه:

أبيت اللعن إن النقد أضحى

بلا أسس وإحساس معقم

(معقم) مفردة لا توحي بالمعنى المقصود منها.. إنها تعني التطهير.. عقم الشيء طهَّرة على خلاف مفردة العقم الذي لا يأتي بشيء.. حسنا العوض عنها بكلمة (محطمة).. ويسرد بعض معوقات النقد وأسباب فشله

يسيّره التواطؤ فهو غاف

وتنشره الصداقة فهو مقدم

فما للشكل في عصري اهتمام

ولا الإنصاف بالمضمون مهتم

سوى أن العواطف حيث مالت

ترى للمدح رايات ومقدم

غدا الشعر الرصين بهم ثقيلا

يُحارب والمبعثر كالمنظم

يشير من طرف خفي إلى حداثة الشعر المتحررة من كل ضوابطه وقواعده.. القصيدة تقليدية تطغى عليها رتابة الحرفة. إلى درجة الارتباك.. هذه المرة مع

رؤياه.. عسى أن تكون خيراً

نفس تعز فتنبري نفس

في نصرها الخذلان مندس

فإذا العزيزة أمة تشكو

وإذا المهانة قوة تقسو

وإذا حصون الحب انقاض

ما للحمى ركن ولا أسُّ

نصل إلى الرؤيا مع هذا المدخل الجميل

يا رؤية تسعى بلا مرسى

مهلا فغاية سيرك النفس

شتان بين النور في نفس

فاتت وما تسعى به نفس

شتان بين اليوم (للعظمى)

شأنا.. وما أمضى لها الأمس

هكذا الحياة تأخذ دورتها.. فمن ضعف إلى قوة.. ومن قوة إلى ضعف.. لا شيء يبقى على حال.. تلك الأيام تتداول بين الناس.. أطرق شاعرنا.. أنصت.. تناهى إلى سمعه صوت نداء يأتيه من بعيد.. صوت فلسطيني جريح..

نزف الجرح في فؤادي وصاحا

يا مريدي نصر الإله فلاحا

نزف الجرح يا رفاقي ومالي

غيركم بلسما يداوي الجراحا

أتعبتني مواجعي.. لو أصابت

جبلا اسمع الوجود صياحا

وكي لا تتكرر كلمة (وصا) و(صياحا) اقترح ابدال (وصاحا) ب(وساحا) لاقترانها بالجرح النازف في أول شطر.. تطول أبيات الشكوى وتطول.. بالهموم مسكونة بالموجع..

يا رفاقي والظلم يفقأ عيني

ومراميه تبتليني بواحا

ما مضى فات.. هل بات قريب

أمل باسم يذيع ارتياحا

الأمل يشيع لا يذيع..

ضقت ذرعا فاهتز بي باب سجني

حطموه.. أو قدروا المفتاحا

ستون عاما وهذا الصوت يملأ سماءنا شجوا.. ويفرق ترابنا دماً.. وما زالت المأساة تراوح مكانها.. ويتعاظم أمرها.. ليست فلسطين وحدها.. فعلى خارطة عالمنا العربي أكثر من فلسطين واحدة وتستنجد.. ولكن..!

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

رجع اللاواقعية.. عن ماذا يتحدث شاعرنا منصور دماس؟

من طريقي خطوتي تشكو طريقي

ودخان الختر والحقد معوقي

يا عيوني لم تشكين قذى من

يركب الريح ضلالا عن طريقي

يا أحاسيسي وما ينقصني من

ذي شعور لم يصل آفاق روقي

قصيدة تطغى على سطورها التقريرية المباشرة.. وعدم وضوح الصورة المراد إظهارها.. إنها خليط من صور متداخلة يزحم بعضها البعض.. مغاليق مشرعة.. وسموم حقد، وجسور حسد.. وعجز، وغدر.. ووجوه بدت ضد الخليق.. وسيف الصمت الألمعي.. وتعكير الذوق.. وأشياء كثيرة اختلطت مداخلها بمخارجها.. حبذا لو ابتعد شاعرنا عن زحام الكلمات التي تضيع في تجاديفها الدلالات.. وما توحي اليه من معنى.. خير للشاعر أن يجلو فكرتها ببضع أبيات محددة من أن يفرقها في محيطه من الأبيات لا يمكن الوصول إليها. هذا لا يعني أبداً أن لشاعرنا قصائد مميزة وموحية بجمالاتها ودلالاتها تستحق الإشادة والتهنئة.. إلا أن الإشارة إلى مواطن الضعف في بعض العمل ضرورة لاكتمال بناء العمل ككل لا يتجزأ.. مجرد ملاحظة أخوية (يقتل الصيد ويخفي مذبحه) عنوان قصيدة يثير الكثير من الفضول.. من هو ذلك القاتل؟ ولماذا أخفى أدوات جريمته؟!

إن جوالا بنصف المصلحة

ذا جناحين فصارت أجنحه

حينما حس بهم اخفاءة

وله الجلُّ توافى مسبحه

رشحوه والنهى في غفلة

كيف والخير نهى ما رشحه

يبدو أن ملامح من يعني باتت واضحة.. أكتفي منه بهذه الأبيات الثلاثة فالباقي مجرد تحصيل حاصل.

حسناً أن يأتي خيارنا الأخير معه مقاطع من مجموعة قصائد مررنا معا عليها سريعاً:

من قصيدته (الحب ومنغصات الزمن) هذه الأبيات:

لأجهل من جهل إذا هاجم امرؤ

أخاه هوى. لا للعقيدة صداحا

وكم ثغرة لم يجهل العرب ضرها

بهم صنع العدوان للباب مفتاحا

ألم يكفكم سوء التمزق رادعا

يوحدكم.. والاختلاف بما انزاحا

كفى أن كوب السم سم انشقاقكم

تفرع آهات. وعمم اقداحا

أبيات موجهة إلى عالمنا العربي الممزق..

ومن مقطوعته (يا شارب العز)

أيصبح الصلد بعد اليأس فياضا

فيملأ الفكر بعد الضيق فضفاضا

ان الورى ضارب كف ارتعاشته

على في حيرة للحال عضاضا

نام الوجود على موت الضمير إلى

شكا ننانته قتلا وإعراضا

وليكن مسك ختامنا معه مع أنشودته (يا أباة الضمير)..

يا حماة الوطن الغالي صمودا واقتحاما

علموا الخائن أنا خير من يرعى الذماما

علموه يا أباة الضيم أنا لن نضاما

علموه أن نصر الحق أهدانا الوساما

مقطوعة استنهاض للهمم

ليس من حاد عن الحق كمن لبى وقاما

وفي النهاية أبياته التي تختزن كل ما جاء في وعائه الوطني

كم صبي مات ما أضفى له المأمن عاما

ومسن خاض أهوالا بطول العمر داما

بدلا من أضفى يحسن أن تكون أضاف.. وبعد هذا الحد توقف بنا قطار المرحلة في محطته الأخيرة.. زادنا خلالها بعضه شهي.. وآخر نيئ.. لم يكتمل نضجه.. شاعرنا في وجدانياته أكثر توفيقا وتوثيقا لرصده.. يكتب وجدانياته بانفعال قادر على رسم الصورة بجلاء ووضوح.

أما الافتعال دون حضور ذهني فإنه يربك الذائقة الشعرية ويحول بينها وبين ما تشتهي.. أقول لشاعرنا العزيز ابن تهامة البار كان أملك الهامس شمعة أضاءت لقافلتنا معك الدرب رغم وعورته.. أسلمتنا في النهاية إلى مرفأ السلامة حيث رسونا.. كنت أنت الربان ونحن معك جميعاً مرافقون.. وواثقون من العودة بسلام..

*****

لإبداء الرأي حول هذه المراجعة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5621» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 - فاكس: 2053338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة