Culture Magazine Monday  02/06/2008 G Issue 250
فضاءات
الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1429   العدد  250
 

ذاكرةٌ اسمها (لغز الحياة)..
ذاكرةٌ اسمها (مصطفى محمود)..
فيصل أكرم

 

 

في حوار بانوراميّ لإحدى المجلات، سألتني المحاورة: ما اسمُ أوّل كتاب اشتريته لكي تقرأه؟ فكان جوابي حاضراً: (لغز الحياة) للدكتور مصطفى محمود..

انتهى أمر الحوار، ونُشر، وعلى كثرة الأسئلة والأجوبة فيه.. أعادني ذكرُ (لغز الحياة) إلى ذاكرةٍ مميزةٍ تجتذبني إلى كتابتها، برغم أنني كنتُ أتيتُ في أكثر من مكان على ذكر العنوان ومؤلفه - وأشرت إليه كذلك بشكل عابر في كتابي الأخير (سيف بن أعطى)- إلاّ أن تفاصيل الأثر الأول تبدو جديرة بالتوثيق، أو هي بمثابة (دَيْن) في عنقي للكتاب ومؤلفه، ويجب عليَّ الوفاء به قبل فوات الأوان.. غير أنني كنتُ أتراخى عن البوح متعلِّلاً بمقولة (العارف لا يُعرَّف) فلا أظن أحداً في عالمنا العربيّ لا يعرف عن الدكتور مصطفى محمود كالذي أعرفه وأكثر..

أقول: كنتُ أتراخى وأتعلل، حتى تلقيتُ رسالةً عبر بريدي الإلكتروني حملت لي نسخة من مقالة كتبتها الدكتورة لوتس عبد الكريم تذكر فيها الحالة الصحية والنفسية الصعبة جداً - حدَّ المأساة- التي يعيشها عالِمُنا ومفكرنا الكبير مصطفى محمود، وأنه يعاني من كل شيء.. كل شيء..

فما الذي بمقدوري أن أقدمه لهذا الرجل الذي ثقفنا بالعلم والإيمان وقدم لنا حلقات ذهبية من مفاتيح ألغاز الكون، والحياة، والموت؟

بأيّ طريقةٍ أقول له: شكراً..؟

ربما لن أستطيع أن أقدم له وعنه أيّ شيء غير الذاكرة.. ذاكرة التكوين والتحصيل الأول، والأثر الممتد منذ عقود ولا يزال..

إذْ لا أزال أتذكَّر ذلك النهار وكأنه قبل ثلاثة أيام، وليس ثلاثين عاماً..!

كنتُ في العاشرة من عمري، عائداً من المدرسة النموذجية الابتدائية بمكة المكرمة - حيث كنت أدرس في الصف الخامس (ولا أذكر الآن السبب في عودتي مشياً، وليس على دراجتي كالمعتاد!).. وفي منتصف طريقي لمحتُ آلة لبيع (الآيسكريم) تتقدم إحدى البقالات الصغيرة.. راودتني نفسي على الوقوف وتناول وجبة من هذا الشيء اللذيذ.. ولكن.. ما أن توقفتُ أمام الآلة حتى لمحتُ بعض زملائي ينظرون إليَّ بعيون الرقيب..!

وبحركة ذكية - أدركتُ ذكاءها لاحقاً- تحولتُ في خطوتي إلى المحل المجاور لتلك الآلة العجيبة، فقد كان معروفاً عني بين زملائي أنني أتصرَّف كالكبار.. وكنتُ جاداً ومجتهداً لدرجةٍ أخجل معها من أيّ تصرُّف يضعني في سياق الطفولة (وليتني تمكنتُ من ذاك السياق!)

المهم أنني انثنيتُ إلى محل، اكتشفتُ بعد دخولي إليه أنه (مكتبة جديدة لبيع الكتب).. فاغتنمتها فرصةً ورحتُ أتصفح العناوين.. وأوّل ما لفت نظري هو عنوانُ كتابٍ صغير الحجم اسمه (لغز الحياة) وفي أسفل غلافه اسم الدكتور مصطفى محمود..

كان للدكتور مصطفى محمود في تلك الأيام شعبية كبيرة جداً اكتسبها من برنامجه التلفزيوني الرائد (العلم والإيمان) وكنتُ - كغيري من أبناء جيلي والأجيال التي سبقته- أتابعه بإعجاب ودهشة.. ومع ذلك كان لا بدَّ لي من شراء كتابه الذي أضاء في رأسي شعلةً على شكل علامة استفهام لا تنطفئ إلا باقتناء الكتاب وقراءته..

سألتُ البائع عن ثمن الكتاب، فقال: أربعة ريالات.

فتشتُ في جيبي فلم أجد إلاّ ريالاً واحداً ونصف الريال..!

خرجتُ من المكتبة حزيناً متحسراً، ونسيتُ الآيسكريم وطريق العودة إلى البيت.. خرجتُ أتجوَّل وأفكِّر في طريقة أكمل بها قيمة الكتاب.. حتى انتبهتُ إلى (ساعة اليد) التي كانت تأخذ مكانها على معصمي، وتذكرتُ أنني كنتُ اشتريتها بخمسة وعشرين ريالاً، فتوجهتُ فوراً إلى (السوق الصغير) الذي كان يجاور الحرم المكيّ في ذلك الزمن، وكان يضم محلات تبيع وتشتري كل شيء وأيّ شيء!

تم بيع الساعة بستة ريالات، فعدتُ هرولة إلى (المكتبة) لأجدها مغلقة - فترة الظهيرة- وأقسم بالله العظيم أنني ظللتُ أمام المكتبة، تحت الشمس، أنتظر حتى افتتاحها بعد العصر لأشتري ذلك الكتاب!

عدتُ إلى البيت وأنا أتأبط (لغز الحياة) وبدأت أقرأ سطوره الأولى التي لا تزال تحتل مكانها في ذاكرتي:

(الحقيقة أكثر إدهاشاً من السحر والخيال والمعجزة.. إنها هي نفسها المعجزة)..

ولم أنم تلك الليلة حتى أكملتُ قراءة ذلك الكتاب، بصفحاته المئة والأربعين، وأتيت على آخر سطر منها:

(وإلى هنا.. وعلى حافة هذا الضباب.. يجب الصمت، فقد قال العقل كل ما عنده).

ويا له من عالم مثير احتواه (لغز الحياة) بين سطريه الأول والأخير.. ولأنّ الذاكرة لا تكفي لاسترجاع تلك المتعة والثقافة التي حصلتُ عليها، قررتُ مؤخراً البحث في مكتبتي (المكتظة بفوضاها!) لعل وعسى أن أجد تلك النسخة.. وبعد أسابيع من البحث، بالفعل وجدتها.. ووجدتُ إشارة مني إلى تاريخ الشراء (1-1-1399هـ)، ومع هذه الإشارة تبين لي أنه كان أوَّل يوم دراسة لذلك العام!

وهذا يعني أن كتاب (لغز الحياة) كان قد استحوذ على اهتمامي أكثر من كتبي المدرسية التي كنتُ تسلمتها أيضاً في ذلك النهار..!

استغربتُ جداً، الآن، من عثوري على النسخة (الذاكرة) من هذا الكتاب الصغير الخارق.. ولم أفهم كيف ظلَّ كتابٌ من القطع الصغير محافظاً على مكانته ومكانه بين أشيائي التي تنقلتْ معي في عدد من البلدان والأماكن طيلة ثلاثين سنة مضت..؟!

أتصفحه، أبحث عن أية هوامش تركتها عليه في قراءتي الأولى فلا أجد - إذ هي عادتي الأزلية بعدم التهميش على الكتب، وليتني أتخلص منها- فمضيت أقرأ مجدداً وأنا أضع في اعتباري أنني قد لا أجد الآن ما وجدته سابقاً.. ولكن الكتاب كان اسماً على مسمّىً (لغز الحياة) فمن منا لا يدهشه لغزٌ كهذا؟!

أدهشني الكتاب في قراءتي الأخيرة له، بقدر إدهاشه لي في قراءتي الأولى.. وبين القراءتين عشراتٌ من السنين وآلافٌ من القراءات..!!

هكذا هي الكتب العظيمة، وهكذا هم الكتّاب العظماء..

لم يكن الدكتور مصطفى محمود يعتمد على النظريات والنتائج العلمية الجاهزة ليبني عليها، بل كان يتناول كل مسألة في الكون بتشريح كل جزء فيها وإعمال العقل في تركيبها كيف يكون؟ ومن أجل ماذا؟ و.....

بالعودة إلى مقالة الدكتورة لوتس عبد الكريم، فقد اغرورقت عيناي وأنا أقرأ تصريحها المكتوب قبل سنة تقريباً، ومما جاء فيه أن حالة د. مصطفى متدهورة جداً من آثار نزيف قديم في المخ، ومنذ عام يعاني فقدان الذاكرة حتى أنه يتذكرها بصعوبة بالغة رغم صداقتهما التي استمرت عقوداً. وأضافت أنه يعيش وحيداً في شقته، تعاوده ابنته (أمل) دون سواها.. ولا يستطيع الخروج حالياً حتى إلى جامعه الشهير ومشفاه الخيري اللذين أسسهما قبل عقود، ويقعان على بعد أمتار قليلة من مسكنه.. وانتقدتْ بشدة وسائل الإعلام التي أدارت له ظهرها ولا تسأل عن أحواله (حتى ظنه الناسُ ميتاً منذ زمن) مع أنه كان يشغل بقعة ضوء كبيرة في عالمنا العربيّ طوال عشرات السنين، ولا يزال على قيد الحياة..

هنا أقول للدكتورة والمؤرخة والناشرة الكبيرة لوتس عبد الكريم، بكل الصدق والوفاء لهذا الرجل الذي هو ثروة علمية وفكرية وثقافية يفخر بها كلُّ عربي: معك كلُّ الحقِّ في انتقادك لوسائل الإعلام (المخجلة في زماننا الراهن)..

ومعي كلُّ الحق في مناشدة (جزيرتنا الثقافية) بتخصيص (ملف - عدد خاص) عن هذا الرجل الذي أضاف إلى المكتبة العربية أكثر من تسعين كتاباً في الفكر والعلوم والآداب، بالإضافة إلى مئات الحلقات المتلفزة من (العلم والإيمان) ..

وأكاد أجزم أن رئيس تحرير الجزيرة، ومدير تحرير الثقافية، وكلَّ محررٍ وكاتبٍ هنا.. لا يزال يحتفظ بذاكرةٍ خاصةٍ اسمها: (مصطفى محمود).

- الرياض f-a-akram@maktoob.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة