Culture Magazine Monday  02/06/2008 G Issue 250
فضاءات
الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1429   العدد  250
 

استدخال الآخر
سحمي بن ماجد الهاجري

 

 

(1)

تطورُ العلاقةْ بالآخر، جزءٌ من التحولاتْ التي حدثتْ في المجتمعِ المحلي. هذا أمرٌ يبدو جليا من الناحيةِ النظرية. ما يثارُ دائما، ذلك التساؤلُ القائمْ، عن تطورْ أدواتِ التعبيرْ عن طبيعةِ العلاقةْ بالآخر، وكيفِ مثلتِها الرواية المحلية تحديدا؛ بوصفِ الروايةْ فنَّ التحولاتِ الكبيرة ؟.

بمعنى أن موضوعَ (استدخالِ الآخر) له جانبٌ علمي، يُعنى بحركةِ التمازجِ البشري، وينبني على الرصدِ والملاحظة، والتركيز على الجوانبِ الظاهرة. في حين تكشفُ البِنية الروائيةْ، بتعددْ عناصرِها التكوينية، وانفتاحِ خياراتِها الدلالية، ذلك البعدَ الإنسانيْ العميقْ للتجربة، وتغوصُ إلى دخائلِ التركيبةْ الوجدانيةْ والنفسيةْ، للشخصياتِ الممثلةْ للحدث.

ومن الأمثلةْ في هذا السياقْ روايةُ (البحريات)، للكاتبةْ السعوديةْ أميمةْ الخميسْ؛ حيثُ تأسستْ الحبكةْ، من خلالْ تكنيكْ (الراوي العليم)، على البعدِ الأفقي المتمثلْ في المكانِ الحاضنْ للحكاية، وطبيعةْ مواضعاتِه الثقافية، وترسيمةْ منظوماتِه السلطوية. وأسقطتْ الزمنْ رأسيا، ليمثلَ حركةَ التحول، بواسطةْ تدرُّجْ حضورْ نماذجِ البحرياتِ الثلاثْ: (بهيجة) و(رحاب) و(سعاد)، ثم بحريةِ الظلْ، أو سيدةِ البحرياتْ (سهام)، التي انحصرَ ظهورُها في عبارةِ الإهداء؛ لتمثلَ نقطةَ التماهي التام، أو كمالْ عمليةِ الاستدخال. في حركةٍ معاكسةْ لموقفِ النماذجِ النسائيةْ المحليةْ، التي جسدتْ (أمْ صالح) مداها الأقصى في رفضِ الآخرْ المتمثلْ في (بهيجة)، وقادتِ (المحيطَ العدائيْ الرافضْ لألوانِها الفاقعة). (البحريات، ص 63). وحملتْ عباراتُها النارية، دلالةً رمزية، على عمقْ درجةْ الرفض: (أنا ادري من وين يجيبون لنا ها الكافرات.. حسبي الله عليك يا شامية بليس). (البحريات، ص 36).

وصم (بهيجة) بالكفر، ومثلُها (إنجريد) الألمانية، تحيلُ إلى فكرةٍ تقليديةْ، طالما رددها الباحثون، حولَ النظرةْ إلى الآخر؛ تقومُ على تقسيمةٍ ثلاثيةِ الأبعادْ، لكل بُعدٍ منها جذورهُ وامتداداتهْ، في تاريخِ الممارسةْ البشرية:

- الأولى مثالية؛ تقوم على استحضار البعد الإنساني المفعم بنشدان العدالة، وروحية التفهم والتعاطف. ونشأت منذ القدم بوضع قوة القيم الأخلاقية في مواجهة القوة المادية المجردة.

- الثانية إقصائية؛ تُنسب عادة إلى طبيعة خطاب الأصولياتِ المغلقة، التي تحاولُ الجمعْ بين القوتين معا، الأخلاقيةْ والمادية؛ لتضمنَ سطوةً مطلقة، تمكنُها من احتكارِ السلطةْ وإلغاءِ الآخرْ.

- الثالثة تفاعلية؛ تحكمُها عواملُ الواقع، ومقتضياتُ التحولاتِ الاجتماعيةْ، على مدى حركةِ التاريخ الإنساني.

ومن الواضح أن التركيز على واحد من هذه الأبعاد الثلاثة، لا يلغي جوهرية التداخل بينَها، بقدرِ ما يظلُّ مجردَ اقتراحٍ إجرائي؛ مما يعني أن الإشكالية معقدة ومتداخلة بطبيعتها، بدرجةْ تعقيدْ وتداخلْ أسئلةِ الكونْ والوجودْ.

(2)

عندما نتتبع حركة الآخرية في رواية (البحريات)، يبرزُ البعدُ الأخيرْ بصورةٍ واضحةْ، ولكنها لا تخلو - في الوقت ذاته - من استبطان البعدين الآخرين، مما نجده في تصرفاتْ وأقوالِ الشخصياتْ، انطلاقا من موقعها في بِنية الحكي؛ فالموقفُ السابقْ ل (أم صالح) ينتمي إلى البعدِ الثاني، وعلاقة الغربة التي جمعت بين (بهيجة) و(إنغريد) تتأسس على البعدِ الأول.. وهكذا.

ولكن يظلُ البعدُ الثالثْ هو الإطارُ العامْ للحكاية؛ مما ساعد على الفرز بين حالة تفاعلِ الذات مع الآخر في ظروف مستقرة وثابتة، وتفاعلِها معه في مراحلِ التحولات العميقة؛ أي حين تكون عملية التفاعل جزءا من متغيرات أكبر من الذات ومن الآخر معا. متغيراتٍ تجثمُ على الذوات وتصهرُها في بوتقة واحدة؛ لتصبحَ شؤونْ وشجونْ هذه الذواتْ مجردَ تفاصيلْ لشؤونٍ وشجونٍ أكبر. وهو الأمرُ الذي دونته الرواية من خلال شعرية اللغة، وما تستثيرُ من شعرية السرد؛ بهدف التأريخ لتلك الحقبة التي مرت سريعا، دلالةً على جِذريةِ المتغيراتِ الجديدة، وتسارعْ وتيرتِها.

وإذا كان استدخال الآخر جزءا من حقائق الواقع بمنطق التحولات، فإنه ينطوي على قدرٍ كبيرٍ من الألمِ الممضْ، على مستوى النماذج الإنسانية؛ لأنه يقومُ على نوعٍ من المحوِ المتدرجْ للذاتيةِ الفرديةْ، حتى على مستوى ذكرياتِها وآلامِها وشجونِها؛ خاصة عندما تكون (نجد) هي البيئةُ المكانيةْ للتحولات، ف (نجد) بيئةٌ إشكاليةٌ بامتياز، تجتمع فيها الأضداد، مما أعطى الشعرَ - تقليديا - أفضليةَ القدرة على تكثيفِ الصورةْ في الحالتين؛ فأحيانا تصلُ دلالة (نجد) الرمزية في الوجدان العربي إلى كونِها واحةً من واحات النعيم، في صيغةٍ كررها الشعرُ العربي على مدى عصوره المتتالية، ومنها قولُ الشاعرْ:

أكرر طرفي نحو نجدٍ وإنني

إليه وإن لم يُدركِ الطرفُ أنظرُ

حنينا إلى أرض كأن ترابَها

إ ذا مُطرت عودٌ ومسكٌ وعنبرُ

(أنظر: البحريات، ص 258).

يقابِلُها صورةٌ أخرى، على النقيضِ تماما، تبدو فيها (نجد) وكأنها وهدةٌ من وهادِ الجحيم، عبَّر عنها الشاعرُ الشعبي بقوله:

يا نجد يا مدهال غبر السنيني

ربعك يشوُّون الجراة الفراهيد

أربع سنين فيك مستصبرين

ما نشبع الا من صرامٍ إلى عيد

(أنظر: البحريات، ص 41).

والكاتبة أطنبت في وصف الطبيعة الصحراوية، وقانون الشح والندرة في كل شيء، مما انعكس حتى على الديانات الصحراوية، وأفقدها تلويناتِ المدن ودنادِيشها ودراويشِها. لتقابلَ بكلِّ ذلك نداوةَ الماءْ وطراوتِه، وهو ما توحي به بيئةُ البحريات. وتؤسسْ بهذا التنافرُ التام، مقياسا معياريا لما سيحدثُ فيما بعد؛ تبعا لتوالي أحداثِ الرواية.

إذن المكان بهذه الرحابة المفتوحة على شتى الاحتمالات، مؤهلٌ لأن يكون بيئةً لتحولاتٍ عميقة، لو تحققت شروطُها الأخرى. ومن المعروف أن مكة المكرمة والمدينة المنورة والمدن المحيطة بهما، تحققت فيها شروطُ استدخال الآخر منذ عدة قرون، مما لا داعي لتكرارِه، أما (نجد) فكان قيامُ الدولة، وتدفقْ عائداتُ النفط، سببا أساسيا في تحولاتِها الحديثة.

(3)

تسارع التحولات، انعكس على تطور النماذج التي مثلتها الشخصيات الثلاث، وكانت درجة اليقين الذاتي هي السمة الكاشفة لنمط الشخصية، والمعروف أن اليقين يتحقق إما بسبب الجهل، وإما بسبب العلم، وهو ما لا يتحقق في حالة الشك.

كانت (بهيجة) أقرب إلى الجهل، وشاركت الآخرين في الإيمان بأسطورة بنات أبو دحيم بدرجة كبيرة. و(رحاب) توفر لها جانب من العلم، وطالما نصحت (بهيجة)، و(علمتها ترتيب أولويات الحياة؛ بحيث تتحول إلى درج نصعد عليه درجة تلو أخرى، وليس مجموعة كراكيب قد تطبق وتنقلب علينا ذات يوم). (البحريات، ص 164). أما (سعاد) فقد فقدت ما يمكن أن يوفره يقين الجهل، ولم تحصل على يقين العلم. فكانت اضعف البحريات أمام ظروفها، ووقعت في المحظور، كما تعكسه سذاجة نظرتها للعلاقة مع (متعب)، الجار في الحارة المدنية، التي فقدت رقابة الحارة الطينية، واحترام علاقات الجيرة.

وكلما ضاقت مساحة اليقين ومعرفة مقتضيات الواقع، اتسعت مساحة الحلم العبثي. كانت تحلم بأن يتخلى (متعب) عن أسرته النموذجية، ويترك أولاده، وزوجته الجميلة المثقفة، التي تشبه (إلسي فرنيني)، وأن يخلصها من زوجها (سعد آل معبل) ويتزوجها ويأخذها هي وأولادَها، لتعيش في سعادة متخيلة، متأثرة بفلم (إمبراطورية ميم) لفاتن حمامة.

كانت حكاية (الآخر المرأة) في مثل هذه الرواية هي الأقدر على تمثيل مسألة استدخال الآخر؛ لأن (الآخر الرجل) عندما يفد إلى مجتمع مختلف، يمتلك نوعا من الاستقلالية والخيارات الذاتية، ويمكنه الانعزال الفردي، أو داخل جالية محددة، مما يتحكم في درجة التأثر والتأثير مع المجتمع المستضيف، في حين تنخرط المرأة بدرجة أكبر في عملية الاندماج، بحكم ارتباطها والتصاقها بالأسرة المحلية، ومحدودية خياراتها الذاتية، كما حدث للبحرية الأولى، ودخولها في تناقص تلك الشذرات المتفرقة (من ذاكرة مضمحلة عن الشام).(البحريات، ص 8).

(4)

في مثل هذه الظروف، يتحركُ مفهومُ الآخر، من كونه مفهوما استبعاديا في أساسِه، إلى حالة لا يعودُ الآخر فيها نقيضَ (الأنا) بشكلٍ كامل، بقدر ما يتحولْ إلى جزءٍ من واقعِها، أو قدرِها الإنساني؛ لأن الآخر في حالات الجمود والثبات، يبدو بمثابةِ الخطرْ الذي يهددْ بتفكيكْ وحْدةْ المنظومةْ المستقرة، أما في أزمنةِ التحولات، فإنه يصبحُ جزءا من دينامياتِ التحول، وربما يصل أحيانا إلى كونه واحدا من ضرورات التحول، كما في حالة المجتمع المحلي الذي انفتح على العالم، واحتاج إلى ضخِ دماءٍ جديدة، في كل جوانبِ الحياة، بعد أن ضل منتظرا على قارعة التاريخ، أحقابا مديدة، مشابها لصحرائه التي: (تتوسلُ الماءْ من قيعانَ بعيدة). (البحريات، ص 7).

ساهمت حركةُ التحولات في خلخلة المنظومات والمفاهيم القديمة، مما انعكس على البنية النفسية للأفراد والجماعات. تُمثل الرواية هنا بحالة البنات الملتحقات بالتعليم، والصراع النفسي المعتلج داخل ذواتِهن: (هل هن خاطئات مبتدعات لبدعة سيحملن وزرَها ليومِ القيامة.. أم هن أمهاتُ المؤمنين). (البحريات، ص 114).

من هذه الشقوق في الجسد الاجتماعي دخل الآخر، وأصبح من وقائعِ الحياةِ الجديدة، وهو ما صورته الرواية بداية من العنوان، الذي يُصرح بالآخرية المحددة بهؤلاء النسوة: (البحريات)، وهن (نساء تقذفُهن أمواجُ البحرْ إلى قلبِ الجزيرةِ العربية ... تتجذرُ النساءُ البحرياتْ في نسيجِ الحياةْ.. وتختلطُ حكاياتُهن بحكاياتِ النساءِ الأخرياتْ في البيوتِ المغلقة). (البحريات، الغلاف الخلفي). تجلبُهن غواياتُ الرجالْ ونزعاتُهم الغريبةْ؛ باعتبارها جزءا من وقائعِ الحياة، هي الأخرى.

(بهيجة) و(سعاد) و(رحاب) يعكسن ثلاث مراحل من حركة تطور المجتمع:

- البحرية الأولى تنتمي لزمن الجواري، تُهدى إحداهن إلى علية القوم، فيهديها لمن هم دونه، حتى وصلت إلى (صالح آل معبل)، ثم تحولت إلى أم ولد، وغادرت صفة الجارية. الجارية الفارسية (عجايب) والجارية الحبشية (مريما) دورهن شاحب؛ لأنهن لم يبرحن مرحلة الجواري. وقوفهن في تلك المرحلة أوقف امتداد تأثيرهن. أما (فاطمة) المغربية، فهي أساسا خادمة بلهاء ساذجة.

- والبحرية الثانية من زمن الطفرة، زمن الخليجي الذي يذهب إلى الشام ويعود بزوجة.

- والبحرية الثالثة تواكب مرحلة تعليم البنات وتأتي معلمة.

(بهيجة) جاءت في مرحلة البيت الطيني بكل تقاليده وأحكامه. و(سعاد) عاصرت مرحلة بيوت المدينة، بما تمثله من الازدحام الخارجي، والخواء الداخلي. و(رحاب) عكست مرحلة امتزاج الأعراق، وتحول المملكة إلى مختبر إنساني ضخم، فصار أبناء (عمر) الحضرمي و(رحاب) الشامية نماذج للحالة الجديدة من الامتزاج وذوبان الآخرين في بوتقة الوطن المسمى (السعودية). هؤلاء الأبناء سعوديون بالكامل، بمعنى أنهم لا ينتمون لحضرموت، ولا للشام، ولا لماضي المجتمع المحلي ذاته. وبقي زواج (انشراح) الخياطة الفلسطينية بمدرس مصري حدثا معلقا في الرواية، وإن كان دليلا إضافيا على مفاعيل بيئة التداخل.

كلُّ هذا الانثيالِ الدلالي يوجب الإشادة بهذه الرواية، فهي من أهم الروايات المحلية، التي صدرت في الفترة الأخيرة، وقد انبنت على ترسيمةٍ واضحةِ المعالم، وعميقةِ الدلالات، في الوقت ذاتِه، ونهضت على حبكةٍ مشغولةٍ بعناية، ولغةٍ معبرةْ، قادرة على تصوير المواقف، واستكناه الامتدادات النفسية، وساهم توظيفُ اللهجةْ المحكيةْ في سبرِ أغوارِ الشخصيات، وأضفى عليها عمقا أكثر. خاصة وأن الآخر هنا نساء، ولا يستطيع التعبير عنهن بهذه الدقة إلا امرأةً مثلَهن، تستطيعُ التسلل إلى دخائلهن، وقراءة تفاصيلهن الأنثوية الدقيقة، وربما لو عبر عنهن رجل لجاء تعبيره خارجيا. ومع تفهم موقف الدكتورة وفاء السبيل، والأستاذة فاطمة الخليوي، التي قدمت دراسة عن غلاف الرواية، وما ذهبتا إليه من انحياز الكاتبة للبحريات، وتشويه صورة المرأة النجدية. (صحيفة الجزيرة، 4-11-1428هـ - 14-11-2007م، ص 17). فإنه لا يمكن إغفال ما تجلى في هذه الرواية، من نظرة واقعية وموضوعية تجاه الآخر، مقابل الهجائيات الفجة في بعض الروايات العربية، التي تعرضت للمجتمع المحلي.

-جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة