الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 20th March,2006 العدد : 145

الأثنين 20 ,صفر 1427

التلفزيون.. الثقافة المُغيَّبة...؟ «1-2»

*محمد الدبيسي :
ظل التلفزيون السعودي ومنذ بداية تأسيسه كقناة بث رسمية عام (1965م)، الوسيلة الإعلامية (المتأخرة) نسبياً عن مستوى الحراك الاجتماعي وتبديات المظاهر الثقافية الأخرى في المجتمع.
ولم يكن بمستوى وسيلة (إعلامية) أخرى ك( الصحافة) في بدايات حركة الأدب السعودي، وبالتزامن مع مظاهر النهضة والتحديث آنذاك، فوفقاً لجهود أحمد السباعي وأحمد عبدالغفور عطار وحمد الجاسر، وعبدالله عبدالجبار ومحمد حسن عواد.. وعبدالقدوس الأنصاري، وعلي وعثمان حافظ.. وآخرين.. الذين استوعبت رؤاهم (الثقافية) التنويرية عبر الصحافة إشكالات الواقع الاجتماعي وقضاياه، وكذا الهم الوطني وعبرت كتاباتهم عن وعي ثقافي واجتماعي، وروح مدنية، تسعى إلى نشر ذلك الوعي واستنهاض همم الناس، ومحاولة بث مفاهيم مدنية كان المجتمع - ولاسيما في الحجاز - جاهزاً للتكيف والتناغم معها.
** وهو الواقع الذي قارب (التلفزيون) بعض مفاصله، وكان من مصادر إنتاجه، بحسب (محمود تراوري) الذي عدَّ الدراما التلفزيونية والإذاعية من منجزات روادنا الأوائل في سياق (خطاب التنوير)، ومن شواغلهم الملحة التي عبروا عنها (إبداعياً) من خلال هذين الجهازين، في وقت لم تحكم (الوصاية) قبضتها على نشاط هذا الجهاز، ومن ثم توجه نشاطه ومضامينه البرامجية بعامة لما تراه الأصوب و(الأحوط)..؟
وكانت أجندة حركة (جهيمان) في بداية (الثمانينيات الميلادية) تتضمن رفضاً قطعياً لحيوية أطروحات هذا الجهاز، وتقدم بدائلها إزاء ما كان يقدمه حينها، وهو ( ما تواطأت) الصدف أو الإرادات على (الامتثال) له لاحقاً، لتمسخ (الفاعلية) المتوخاة من دور كان يمكن أن يواصل (التلفزيون) أداءه وتقديمه.
** في ذلك الحين.. كان (التلفزيون) وعبر قناته الوحيدة مصدراً متقدماً للأخبار، ومتنفساً للترويح والتثقيف ومواكبة ما يجري خارج المحيط الاجتماعي الخاص، لا ملجأ للناس من سأم يوميات الحياة العادية واحتقاناتها إلا إليه، ولا منفذ باتجاه تجلياتها الأخرى إلا عبره..؟
كان (التلفزيون) حينها يبث برامج الاتجاه الواحد.. والرأي الواحد.. والذوق الواحد.. وكان (مسؤولاً واحداً) عن تنسيق البرامج، يملك فرض رغبته (الشخصية) على ملايين (المشاهدين) حينها.. حيث يختار لهم (مايروق له) لا مايريدون..؟ والتسويق لما (يؤمن به) من أفكار، لا (مايقتنعون به) هم، فيقرب من يشاء ويبعد من يشاء.. ولا رادَّ لمشيئته..!
في ظل إمكانات تقنية لم تجد الكوادر البشرية التي تحسن التعامل معها وتوظيفها، إذ ظل التلفزيون مصدر المعلومة ومصدر الخبر ومنفذ الترفيه، متوازناً حينها مع الاتجاهات الاجتماعية السائدة..؟
وعندما التحقت القناة (الثانية) بالأولى عام (1983م) لبث البرامج والأخبار باللغة الانجليزية لمجتمع نصفه أمي..!؟ لم تكن هذه النقلة (الأسطورية)؟! مقنعة بسلامة اتجاه القائمين على (التلفزيون) نحو المواكبة والتطوير.
** ومع تعاقب (أربعة وزراء) على جهاز الإعلام، كانت قضية تطوير هذا الجهاز - كما يظهر لنا، لا كما ينوون ويعتزمون ربما - بمنأى عن اهتماماتهم.. وإن كانت أطروحات بعضهم (النظرية) كمحمد عبده يماني في جملة مؤلفاته، وفؤاد الفارسي ولاسيما كتابه (الإعلام والصراع العالمي) الصادر عن تهامة عام (1407هـ) تنم عن إدراك (نظري) تقدمي لأهمية (الجهاز) ودوره المفصلي التغييري في العملية الإعلامية وبنية الخطاب الثقافي والوعي العام، لم نطالع أياً من أمثلته التطبيقية..؟
إذ ظلَّ وبذات الآلية النمطية والتغيرات الشكلية، التي لم تتجاوز (مظاهرها) الموسمية تغيير خلفية (استديو الأخبار).. وإبدال أسماء (برامج المنوعات) التي ظلت تُسترد من أرشيف (التلفزيون).. أو مختزل بعض برامج تلفزيونات الدول الأخرى.
وهو ما أنتج ظاهرة هروب (المذيعين) المتميزين واستقطاب التلفزيونات الأخرى لهم، لاستثمار قدراتهم.
في وضع (كهذا).. ظهرت وفي بداية الثمانينيات قنوات البث الفضائي متجاوزة الجغرافيا والحدود السياسية والأنظمة الإدارية للدول، لتصبح في متناول الجميع.. وانكب (الشعب الطيب) على اقتناء أجهزة البث (الدشوش) رغم كل الفتاوى والتحذيرات والخطب.. التي زجت بهؤلاء إلى النار.. وسوء القرار..؟!.
** كان تيار التغيير الاجتماعي ومد عصر المعلومات وتقنيات البث الموجه والمباشر قادرة على تجاوز كل هذه (الحُجب والتابوهات).. لتؤكد على الرغبة (الشعبية) الاجتماعية العامة لدى الناس في إدراك ومعرفة ما وراء الأفق.. لتنفتح فضاءات أخرى على الصعيد الاجتماعي القلق..!
الذي وجد في تعدد الوسائط ووفرة البدائل والخيارات.. التي تتفاقم وتتوالى أمامه فجأة بكل ما تنطوي عليه من مفاهيم وثقافات نوعية - وفَّرت على تلفزيوننا.. جدة الانتقاد - ما يوصله إلى المعلومة ويشبع رغباته ويرضي نهمه في الاختيار والتلقي والمتابعة.
ولكن (تلفزيوننا) استمر على منهاجه القويم.. لينحسر عدد مشاهديه إلى مستويات متدنية تُعبر عنها صيغة إعراض واعتراض شعبية (متداولة) وطريفة في أوساط الناس، حيث تُنعت القناة الأولى ب(غصب واحد)...؟! وفي تلقائية التعبير العفوي لهذه (العبارة)، تكمن دلالتها الرمزية على الاحتقان والعزوف العام عن (جهاز) يأبى أن يتطور أو يتغير.. وكأنه أريد له أن يكون بمعزل عما يجرى في العالم..؟ ويزيد من تفاقم عزلته.. وتدني جماهيريته، حصار ورقابة وتأويل رموز تيار (بعينه)، الذين ينقل إليهم مريدوهم ونوابهم من المشاهدين، أي تجاوز ب(زعمهم) للآداب والتقاليد المرعية.
** ولعل المثال الساطع لذلك.. فتوى تحريم (طاش ما طاش)، وشيوعها في الأوساط الاجتماعية، وخسارة (التلفزيون) لسبق إنتاج عمل يعتبر كوميديا هادفا - بالمطلق - يعالج وبجرأة رمزية العديد من الممارسات والإشكالات المجتمعية، ويلقى قبولا استثنائيا متزايدا من قبل المشاهدين، يتوقون لمحرك أو مفعل للبهجة في نفوسهم، وتخفيف احتقانهم إزاء ما لا يستطيعون (الحديث عنه)، فضلاً عن نقده - وهو ما يعتبر ومن منظور معرفي صيغة إصلاح عصرية، وفقاً لقدرات وإمكانات القائمين عليه - بعد أن ملُّوا (مشهد) الوجوه المتجهمة، وبالرغم من إيغال (الرقيب) الداخلي في (قصقصة) أجزاء من العمل، و(هصره) ليتواءم مع معايير (القوم) واعتباراتهم، إلا أن (طاش) أطاح بتشكلات الوهم وتعابيره تلك، واكتسح وبقي وتزايد جمهوره.. مما انعكس على تلاشي وذوبان (الفتوى) وتراخي همة (مشجعيها) عن الترافع بها مرة أخرى.. في وجه مالا يروق لهم.
و(هنا) يمكن أن تبرر انهزامية وسلبية التلفزيون أو مناعته ضد التطور، وتواضع جدواه وتأثيره؛ بدعوى قوى المحافظة المتغلغلة في (وجدانات وأذهان) قبل تمكنها من مفاصل مؤسسات تمتلك سلطة إدارية أو شرعية نظامية، في فرض رؤيتها على سياسة (جهاز إعلامي) هم ومؤثر ك(التلفزيون) من الأجدى تركه لرؤى التكنوقراط المتنفذين في مؤسسته الأم (وزارة الثقافة والإعلام).
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved