صورة حقوق الإنسان في الفكر العربي الحديث الكواكبي نموذجاً 1ـ 5 ... نبذة عن حياته:
|
* د. عبدالرزاق عيد :
ولد الكواكبي ولد في حلب (1854-1855) من أسرة ارستقراطية، وهي ارستقراطية الأشراف المؤسسة على العلم والأدوار الوظيفية العليا، فقد كان أبوه الشيخ أحمد بهاء الكواكبي عالماً شغل عضوية مجلس إدارة الولاية، وأمانة الفتوى.
وقد ذكر بعض المؤرخين لحياته أنه يعود بنسبه إلى آل البيت، حيث يعود نسب أسرة الكواكبي إلى علي بن أبي طالب، وكانت قد شغلت منصب (نقابة الأشراف).
تلقى علومه طفلاً في إنطاكية على يد المعلم نجيب النقيب، وهي علوم تقليدية (تعليم القرآن والحديث والفقه واللغات العربية والتركية والفارسية) وتلقى بعض العلوم العصرية على يد الأديب التركي خورشيد، حيث كان الكواكبي ينتقل بين حلب وإنطاكية.
بدأ حياته الكتابية في مدينة حلب بالالتحاق بأسرة تحرير جريدة (الفرات) التي تصدر باللغتين العربية والتركية، وكانت الجريدة الرسمية التي تصدرها الحكومة، وقد أسسها أحمد جودت باشا والي حلب عام (1767)، ثم ما لبث أن آثر الاستقلال عن الجريدة الرسمية الحكومية فأنشأ مع هاشم العطار صحيفة باسم (الشهباء) وهي أول جريدة صدرت في حلب باللغة العربية وحدها، وبسبب نزعتها النقدية الحادة للسلطنة العثمانية أغلقها والي حلب ولم يكن قد صدر منها إلا ستة عشر عدداً، فبادر بعد إغلاقها إلى إصدار جريدة باللغتين العربية والتركية باس (اعتدال)، لكنها ما لبثت بعد فترة قصيرة أن أغلقت من قبل والي حلب جميل باشا رغم أنه عرف عنه اعتداله واستنارته، ومع ذلك وجد جميل باشا في جريدة (الاعتدال) أنها أبعد ما تكون عن الاعتدال.
لقد شعرت السلطة بخطره، فحاولت استمالته بتعيينه عضواً فخرياً في لجنتي المعارف والمالية وتقلب بعد ذلك في وظائف حكومية عديدة، إدارية وقضائية، ما لبث أن استقال منها عام (1886م) ليمارس مهنة المحاماة، وليدخل في مواجهات مباشرة مع الإدارة ونظام الحكم العثماني، فحاول السلطان عبد الحميد استمالته ليضمه إلى حاشيته فعينه قاضياً على مدينة راشيا ب(لبنان)، لكنه أبى رافضاً هذا العرض، وتوجه سراً إلى مصر مع ابنه الأكبر كاظم، وذلك في منتصف تشرين الثاني من عام 1898م، ويبدو أن أحد تلاميذه المستنيرين والمناهضين للترك وهو الصحفي (عبد المسيح الانطاكي) الذي كان قد سبقه إلى مصر قد ساعد على هذا التوجه. قبل رحيله إلى مصر كان الكواكبي دائم الاتصال بمثقفي البلاد الأجنبية الذين يؤمّون حلب متاجرين أو سائحين أو موظفين في إحدى القنصليات، وحلب في تلك الفترة كما يصفها عباس محمود العقاد في صدد حديثه عن الكواكبي: (مدينة حل وترحال غير منقطعة عن العالم، ولم تنفصل قط عن حوادثه وأطواره، كأنها المرقب الذي تنعكس فيه الأرصاد فلا تخفى عليه خافية، ولا ينعزل بنوها عن دانية ولا نائية). ولهذا فمنذ حلوله في مصر كان قد اكتملت مكونات تجربته الفكرية والسياسية، فراح ينشر كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) الذي كتبه قبل وصوله إلى القاهرة، فقام بتنقيحه والزيادة عليه، وهو ينشره فصولاً في جريدة (المؤيد) لصاحبها علي الليثي، موقعة بلقب (الرحالة كاف) فذاع صيته وعرف في الأوساط الثقافية، بلغت شهرته الخديوي عباس، الذي كان يتطلع إلى تحويل مركز الخلافة الإسلامية من الترك إلى العرب، على أن يكون هو سلطانها الزمني وشريف مكة خليفتها الروحي، ويقال بأن الخديوي كان وراء رحلة الكواكبي في أنحاء البلاد العربية للدعوة إلى الخلافة العربية، في حين يشير حفيده سعد زغلول كواكبي إلى أنه: (لم يذكر هذا القول إلا من قبل بعض الصحفيين دون أي دليل)، تلك الرحلة التي كان منشأها أن يكون ثمرتها كتابه (أم القرى)، وكان كتابه هذا دفاعاً عن الجامعة الإسلامية ووحدتها وصلاحها في ظل خلافة عربية.
توفي الكواكبي في 13 (حزيران) من عام 1902م في القاهرة بالذات، بعد أن احتسى فنجاناً من القهوة في (مقهى يلدز) بالقرب من حديقة الأزبكية، شعر بعدها بالآلام في أمعائه، وأخذ يتفوع وقبل أن يحضر الطبيب توفي. وقيل إنه مات مسموماً بأمر من السلطان عبد الحميد بالذات.
الكواكبي - حقوق الإنسان:
إن النهاية الدرامية التي آلت إليها حياة الكواكبي، تعطيه فرادة نوعية خاصة في تاريخ تكون المثقف العربي عبر التحولات التاريخية لصورة هذا المثقف من تخلقه الاجتماعي الأول في نموذج (القراء) حفظة القرآن، إلى نموذج (الفقهاء) وعاظ السلطان بدءاً من التاريخ الأموي، وصولاً إلى ما يدعى (العلماء) في هذا الزمان أي: رجال الدين، وذلك ضمن نسق نموذج (الأصالة) التراثي، بالتوازي -في العصر الحديث - مع ولادة المثقف كمعطى نوعي جديد من حيث الوظيفة والأداء عالمياً، وذلك مع بدء زمن الحداثة الجديد بعد الثورة الصناعية، وقيام المجتمع المدني بوصفه مجتمع الشعب لا مجتمع الرعية، مجتمع الأمة حيث انتماء المواطنة المجتمع الملة حيث انتماء الطائفة والمذهب، هذا الزمن الحديث سيعطي للمثقف تعريفاً جديداً يتساوق مع الوظيفة الاجتماعية التي انتجها الاستقطاب الاجتماعي الأفقي السوسيولوجي الرأسمالي على أنقاض بنى المجتمع القروسطي الإقطاعي العمودي في روابطه الاجتماعية: حيث رابطة الدم والقرابة الأسرية والعائلية، وبناه المفاهيمية والثقافية التي تتهيكل في مصفوفات الملل والنحل، لكن مع الزمن الحديث هذا سيغدو (المتلقي) لرسالة المثقف هو المجتمع، وفضاؤه الحياة العامة، هذا الزمن سيشهد ولادة المثقف (ذي الأنف الطويل) حسب تعبير سارتر، ذاك المثقف الذي يدس أنفه في شؤون المجتمع في شتّى حيزاته السياسية والثقافية والاجتماعية، وهو في فضوله المجتمعي، معرفة وفعلاً وتغييراً تكمن ثقافته كمثقف تعريفاً، ولهذا تكثفت في الكواكبي كل هذه المميزات للمثقف العربي الإسلامي الحديث الذي ليس له في ميراثه الثقافي والتراثي العربي الإسلامي نسباً، لأن زمنه لم يلج زمن الحداثة المنتج للمثقف الإشكالي ذي الأنف الطويل، قد نجد أصولا مرجعية لحسه التاريخي وهو يحلل الأخلاق والتربية والدين والترقي في النظرية الخلدونية عن العمران، حيث رؤية العمران في ارتقائه وانحطاطه بوصفه ثمرة سيروراته الداخلية الضاربة صفحاً عن الغيب، لكن الكواكبي لا يرى في حياة ابن خلدون سوى حياة الذل، فهو (الذي خطأ أمجاد البشر في أقدامهم على الخطر إذا هدد مجدهم).
قد نجد مثالاً له في التراث العقلاني الفلسفي في نموذج ابن رشد الذي فصل بين علوم العقل (الحكمة) وعلوم النقل (الشريعة)، معتبراً أن لكل حقل آلته (البرهانية) حيث للعلوم الأولى (العقل) والثانية (الأيمان). للأولى الحياة، وللثانية الآخرة. يتوجه الكواكبي إلى العرب من غير المسلمين (المسيحين) مخاطباً إياهم حاضاً إياهم على الوحدة الوطنية مع المسلمين انطلاقاً من وحدة الأمة ووحدة الوطن قائلاً: (دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط). لكن إشكالية ابن رشد المثقف مع زمنه كان مدخلها الاصطدام مع المؤسسة الدينية التي انتحلت صفة المؤسسة (الكهنوتية) الغريبة عن روح الإسلام، إذ حرضت السلطة الدينية على ابن رشد، فكان صدام ابن رشد مع الاستبداد الديني للمؤسسة الفقهية الرجعية لزمنه، بينما كان مدخل الكواكبي للاصطدام ب (الكهنوت) هو اصطدامه مع السلطة السياسية، عندها سيتكشف له تلازم الاستبداد السياسي مع الاستبداد الديني بوصفهما صنوين على حد تعبيره.
ولهذا فليس هناك نظير للكواكبي - عربيا- في عنف سجاله مع سلطة الاستبداد بشقيها الديني والسياسي إلا في نموذج المثقف التنويري في العصر الحديث، ولعل النموذج الأقرب له في موقفه الناقد الهجاء، العاصف، هو فولتير الذي كان (بنظرته الخاصة إلى الحرية والمساواة والملكية، الملهم الأساسي لواضعي شرعة حقوق الإنسان في عام 1789 لكن ما يميز الكواكبي العربي عن فولتير الفرنسي، هو أن نظام الاستبداد العثماني الشرقي كان أكثر شراسة من احتمال حممه البركانية المزلزلة لثباته، فقدم له كأساً من السم..
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|