قصيدة (الوطن) في شعر بعض شعراء عسير مقاربة فنية 3ـ 5 ... الوطن الماضي
|
* علي فايع الألمعي:
تبقى قصيدة الوطن التي تتمثّل المرأة في حسنها وجمالها, في وصفها والتفاعل مع كلّ مكنوناتها أقرب القصائد العسيريّة إلى الشّعر, بيد أنّها لم تكن تشكّل تلك الغزارة الكتابيّة التي يجسّدها شعراء عسير, ومع ذلك ظلّت غريبة في صورها, جيّدة البناء, كما أنّها جاءت متباعدة الرؤية بين شاعر وآخر, لكنّ أكثر الأشياء خدمة لها أنّها عبّرت عن منكونات وصور ومشاعر, كما أنّها استجابت لمطالب الشّعريّة لدى الشّاعر, فصورة الثّغر الذي يقبّل القمر لدى (علي آل عمر) لم تكن غير (جدّة) تلك المدينة التي لامست عاطفة الشّاعر فيها بعداً جماليّاً يمكن مشاهدته من نظرة أولى عابرة, فهي مكان يستبيحه الجميع حتّى غدت بصر العاشق إذ يرنو إليها, فهو يراها تملك أنفتها, تقبّل القمر, إذ يقول:
شمّاء ثغرها يقبّل القمر
وعينها لكلّ عاشق لها بصر
فهي تلامس الحياة بأنّها تعبّر عن حال الغريب معها, إذ تسلبه غربته, لالشيء إلاّ لتمنحه أن يعيش فيها دون شعور بالغربة, وهي هنا شهادة لها بقدرتها على أن تستوعب كلّ الأجناس, ويتعايش فيها كلّ البشر دون شعور بالوحدة أو البعد, حيث يقول في قصيدته السّابقة: وداعة الحياة فيك تسلب الغريب غربته
يحسّ بالهدوء
ويشطب الهموم من دفاتر المراجعة
ويحمل الحياة في إناء
ويحتوي الجمال في إطار
ويحتسي السّعادة التي أعددتِها
شراب كلّ القادمين.
وهي أي المدينة تفوز بأن تتشكّل على أنّها امرأة تملك مقوّمات الحسن والبهاء فهي قادرة على منح الذّات بعضاً من السكينة إذ هي العطر, والضياء, والحقل, والغابة, والطّير, كمافي قصيدة (محمد زايد الألمعي) طفلة الكلمات, التي يقول فيها واصفاً (أبها):
فألقي وجهك المطريّ نحوي
وعلّيني على شفتيك علاّ
ولفّيني بعطر ثراك حتّى
أشعّ سنابلاً وأكون حقلاً
وأورق غابة وأطير طيرا
وأقطر في الصّباح عليك طلاّ
وهي - أي أبها - صورة الوطن المبهجة, حيث اكتملت فيها لحظات العشق, وفاضت فيها العواطف, فهي كأس الأمل, وعشقه المرسوم على الجبين, وهي في الوقت ذاته الألم المسافر لحظة الكتابة:
أديرك كأس آمالي وعشقي
وأرسم في جبينك لي محلاّ
ولوقال الزّمان: أدر سواها
وجرّب غير تلك لقلت: كلاّ
هي الألم المسافر في حروفي
ومن عشق التّوجّع ما تولّى
إلاّ أنّها في النّهاية تبقى (أبها) الخجولة التي تبحث عنها العيون, بغية الظّفر بجمالها, كي تعود الرّوح إلى الأجساد التي فقدتها وسط نداءات بأن تلتحم في ذاته:
أيا أبها تفتّش عنك عيني
وأنت على مدار القلب خجلى
كأنّ جمالك الأبديّ روح
إذا نزعته نازعة تجلّى
فصبّي من دمائك في دمائي
فهذا الحبّ من دمنا تدلّى
ليصبح سلسل الكلمات نهراً
ويخرج كلّ حلو منك أحلى.
ومع كلّ تلك النفحات الكتابيّة تبقى القصيدة في نظر شاعرها غبيّة, لأنّها لم تستطع اختراق خوفها وسكونها لتمنح المكان شيئاً من استحقاقه, بعد أن نثر لغته في كلّ شبرٍ منها, لتغدو (أبها) تلك الفتاة الجميلة الخجولة, بل الطفلة الوديعة, صامتة بباب المعاني:
وما أغبى القصيدة حين تجثو
على باب الحقيقة وهي وجلى
ويغدو الصّمت فاتحة المعاني
ويغرس في جبين الشّمس نصلا
لتبقى طفلة الكلمات (أبها)
ولو شاب الزّمان وصار كهلا.
ولئن أجاد (محمد زايد) في قصيدته (طفلة الكلمات) إذ مارس دور العاشق لمحبوبته, فلا يرى غير حسنها, ولا يقف إلاّ مع مفاتنها, ولا يتأمل إلاّ تلك الأشياء التي تكون خافية إلاّ على العاشق لها, فإنّ بعداً شموليّاً آخر يفجؤنا به شاعر عسيريّ (كعبدالله الزمزمي) في قصيدته (ياوطن), حينما يحرّكه الغرام, وتدفعه نبضات قلب مأسور:
لي في غرامك لهفتان ونبض قلب مرتهن
هل للشواطئ ما أحسّ من الوجد والشّجن؟
وهي التي تختال في ثوب وفي وجه حسن
لك في المرايا مقلتان تشعّ إبداعاً وفنّ
وهو - أي الوطن - تلك التساؤلات التي تبعثها المقل لحظة نزفها, وهو العطر المنسكب في أرضه لحظة التذكّر, وهو الورد الذي يبعث فيه رغبة التساؤل:
سل مقلتي.. كم يا وطن.. لك بين أجفاني وطن؟
ولمن سكبت العطر في كفّيك تذكارا لمن؟
والورد إن لم تعتصره لمن سأغرسه إذاً؟.
وتبقى نقطة الالتقاء بين العشق ولحظات الشدو هي الفراق إذ نلحظ في القصيدة كثرة النحيب, وهطول الدّمع, ورحيل التفاؤل لحظة البعد, لكنّ التساؤل المشروع يبقى الفيصل في النصّ:
فإذا عشقت قصيدة بتنا نردّدها معاً
وإذا شدوت إلى الحياة أقول أنصت يازمن
إنّي ليصفعني اغترابي عنك يا أغلى وطن
خذ من فؤادي ما تريد ولا تسافر يا وطن.
af1391@hotmail.com
| | |
|