المشهد الثقافي العراقي
|
* قاسم حول:
بقي المثقفون العراقيون في حيرة من أمرهم بعد أن سقط الدكتاتور. فهم وفق الواقع الجديد غير منسجمين مع المشهد السياسي والثقافي. هذا المشهد المرتبك كان هاجساً عند المثقف العراقي أيام كانت اجتماعات القوى المعارضة للنظام العراقي تتوالى في عواصم أوروبا، فكان مشهد تلك الاجتماعات يوحي بأن ما سيأتي من واقع ثقافي سيكون خاوياً ولا مكان فيه للثقافة والمثقف العراقي.
لم يبدأ أي اجتماع لتلك القوى المعارضة بقصيدة شعر ولا بفيلم سينمائي ولا بمعرض للرسم أو معرض للكتاب. ولم تكن منصة الحاضرين تحوي من بين حضورها كاتباً أو شاعراً أو فناناً. عرفت يومها أن المشهد الآتي سيكون مريباً. وكتبت عن ذلك حينها وكنت خائفاً.
يوماً تلقيت دعوة لاجتماع في إسبانيا تقرر فيه أن يحاضر رجل القانون الإسباني عن تجربته في صياغة حياة سياسية واجتماعية وثقافية بقوانين تلت فترة الدكتاتورية في إسبانيا عسى أن يستمع العراقيون للتجربة ويقتدون بها، عندما دعيت لذلك الاجتماع طلبت من اللجنة المشرفة أن يصار إلى عرض فيلمي الوثائقي (الأهوار) باعتبار أن الدكتاتور قام بتجفيف هذه المساحة المائية الشاسعة التي يعود تاريخها إلى أكثر من سبعة آلاف عام. واستغربت أن اللجنة قد وافقت على مقترحي وكان هذا هو شرط حضوري اللقاء الذي يفتتحه رئيس وزراء إسبانيا. وعندما وصلت مدريد وأنا أحمل معي الفيلم مسجلاً على شريط بيتكام وسألت عن جهاز العرض المتوفر في كل مكان ولدى كل مؤسسة خبروني أن الجهاز موجود وجاهز لعرض الفيلم. ويوم افتتاح المؤتمر علمت بأن اللجنة لم تجلب الجهاز إلى صالة العرض وأن الفيلم سوف لن يعرض، فطلبت من رئيس المؤتمر أن يعتذر للجمهور سيما بحضور رئيس الوزراء الذي يعرف أن المؤتمر سيفتتح بهذا الفيلم. لكن رئيس المؤتمر لم يقدم اعتذاره بل ألقى كلمته ودعا رئيس الوزراء الإسباني لإلقاء كلمته.
ومن على المنصة سأل رئيس وزراء إسبانيا عن فيلم الأهوار فأخبروه عن عدم تمكنهم من جلب جهاز العرض فوقف يقول في بداية كلمته: (أحيي السينمائيين العراقيين في الصالة) ثم حيا الجمهور وواصل كلمته فلقد عرف رئيس وزراء إسبانيا كيف يعتذر للثقافة معتبراً نفسه جزءاً من المسؤولية باعتباره في المنصة وليس في الصالة.
هذا هو الفرق بين التحضر والتخلف. وعندما انتهت كلمة رئيس الوزراء حملت فيلمي وغادرت الصالة وتأكد لي أن المشهد الثقافي القادم في العراق لا يبشر بالمسرة.
يعيش المثقفون العراقيون داخل العراق اليوم حالة من الخوف والضياع وعدم القدرة على العطاء، وقد يبدو هذا الرأي فيه الكثير من عدم التفاؤل ولكن قراءة لواقع العراق تؤكد هذه الحقيقة.
هناك أدوات تعبير ثقافية يمكن أن تنحو منحى شبه سري وكتوم كأن يكتب الشاعر قصيدته ولا يقرؤها أو ينشرها وقد يكتب الروائي رواية ولا ينشرها ولكن كيف يقدم المسرحي مسرحيته والسينمائي فيلمه السينمائي؟! وكيف يعرض الرسام لوحاته، في وطن يشار فيه نحو علبة حلوى عليها صورة فتاة محتشمة فيصار إلى تهشيم المحل وضرب صاحبه؟!
وعندما توزعت قوات التحالف على محافظات العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري دخلت قوات أمريكية وبريطانية مدينة بابل التاريخية وأرادوا أن يقيموا نقاط التفتيش قرب تلك المواقع، أخذوا قطعاً أثرية من الآثار البابلية وطحنوها تحت جنازير الدبابات وملؤوا فيها أكياس المتاريس وكأن تراب العراق قد نفذ ولم يعد ثمة ما يكفي من تراب الوطن لأكياس متاريس نقاط التفتيش. لم يقدم وزير الثقافة استقالته ولم يقدم رئيس الوزراء احتجاجه.. قيل إن مثقفي المدينة أقاموا مجلس العزاء في دواوينهم الخاصة وكانوا يبكون. يهجر مثقفو العراق اليوم هجرة ثانية بعد أن مكثت الهجرة الأولى في منافيها ولم تعد لوطنها. السلطة العراقية الحاضرة، سواء الحكومة الأولى لقوات التحالف أو الحكومة الثانية الانتقالية نحو الدستورية أو الحكومة المتوقعة بعد إقرار الدستور بمكوناتها والتوقعات بشأن تشكيلها سوف لن تبشر بخير ثقافي، وستكون النهضة الثقافية عسيرة الميلاد مشوهة المولود؛ فالذين هجروا ليعيشوا على أرصفة مدن الجوار هجروا والذين لم يهجروا واستعصت عليهم الهجرة لأسباب اقتصادية أو اجتماعية فإنهم دونما استثناء أنزلوا من جدران غرفهم صور رموز الثقافة العراقية والعربية والعالمية وعلقوا صور المرجعيات الدينية حتى إذا زارهم زائر اطمأن على موقفهم ومنحهم شهادة حسن السلوك! انتهى عصر القصيدة.
وانتهى عصر القصة والرواية.
وأغلقت صالات السينما أبوابها أو تحولت إلى مسارح تحكي قصة خلافة الأسلاف على مسرح مزقت ستائره وتكسر زجاج نوافذه وتعطلت فيه الإضاءة وهجر صالته الجمهور.
أحماض مخابر الإظهار لمؤسسة السينما تكلست وفسختها الرطوبة وتعفنت، ومواسير مياه غسل الأفلام صدئت وتنزل منها قطرات داخل حوض المخبر وتخرج صوتاً رتيباً يشبه عملية تعذيب السجين في النظم الفاشية. وباب المخبر تعبث به الريح مفتوحاً وقد هجره الموظفون ولم تبق سوى رائحة الأحماض يشمها المارون عن بعد.
وزارة الثقافة لم تعد سوى وزارة مجاملة تمنحها الحكومة لقائمة انتخابية ليست ذات شأن في موازين القوى لذلك فهي الوزارة الوحيدة التي ليست لها ميزانية.
كُتُبُ الثقافة المتنوعة والمتنورة أُنزلت من رفوف المكتبات إلى السراديب وحلت محلها كتب مجلدة بالجلد الأسود والبني الغامق وكتبت عناوينها بلون مذهب تشير إلى سجع العناوين في أزمان غابرة مثل (رحلة الأسفار في عالم الصغار والكبار، و التاريخ الحافل في الخلاف الماثل، وسالم السريرة في الأيام المريرة، وخلاف المنة بين الشيعة والسنة، و رأي المحتكم في الموج المرتطم، وأسباب الخلاف في النكاح والزفاف، وتقاليد المدينة في معرفة الضغينة، والقتل المدفوع في رأي الإمام المشروع، ولعنة الجاهل في قراءة العاقل، وأحلام اليائس في تباريح البائس، وحسن الكلام في اليقظة والمنام..) ملايين العناوين التي لا تمت لمضامين الكتاب بصلة كتبها مجهولون وكلها مكررة ومعادة بصيغ مختلفة ومطبوعة بحروف مصفوفة منذ عهد الطباعة الأولى ومعاد تصويرها ومجلدة بالخيوط والجلود.. لا أحد يعرف في أية سراديب كانت مخبأة وظهرت فجأة لتحل محل الثقافة المعاصرة التي تنقل العلم والمعرفة وتنمي المخيلة وتنعشها في الحياة المعاصرة التي يصارع فيها الإنسان الوجود في محاولة لإثبات كفاءته الإنسانية فتهجم علينا ثقافة تريد أن تعيدنا إلى العصور الحجرية الأولى.
لم يكن هذا المشهد الثقافي في عراق الحضارة غريباً، فإن اللقاءات الأولى في عواصم أوروبا قبل أن يطاح بنظام الدكتاتور كانت تؤشر إلى هذا الواقع الثقافي الذي يعيشه المثقفون العراقيون اليوم.
وفي المقابل لمشهد الثقافة داخل العراق يتكون مشهد ثان مختلف تماماً يمثله جيل من المثقفين الذين هجروا العراق أو هجروا منه قسراً وتعايشوا مع مجتمعات جديدة تطبعوا بشيء من طباعها بالضرورة، ولكن مأساتهم لا تكمن في شكل هذا التطبع لأن ملامح الوطن تغيب أيضاً وبالضرورة عن الإنتاج الثقافي بجميع أدواته التعبيرية، ويشكل غياب هذه الملامح حالة كارثية في مجال الفنون البصرية.
إن قراءة واعية للمشهد الثقافي العراقي تضعنا في صورة موحشة ومدمرة في وحشتها حيث يغيب الحنان الثقافي عن المثقفين بغياب الإلفة فيما بينهم والهروب من بعضهم والهروب من الذات في محاولة لخلق قناعات مساومة عند البعض بين رغبة الإبداع وظلام الواقع.
إن كل مؤشرات الواقع السياسي العراقي والقوانين السائدة في المجتمع وشكل البرلمان ومكوناته وتوزيع الحقائب الوزارية على أسس مذهبية وليس على أسس الكفاءة لا تعطي أي مؤشر لازدهار ثقافة عراقية بل المؤشر يحدد مسار ثقافة سوداء أحادية اللون ومتخلفة.
إن الثقافة في أي مجتمع هي التي تشكل هوية الوطن والمواطن. وعندما سقط النظام السابق في العراق فإنما جاء سقوطه بسبب سقوط المنهج السياسي للدولة ولكن سقوط الثقافة هو سقوط هوية الوطن، فعندما تسقط السياسة يسقط النظام وعندما تسقط الثقافة يسقط الوطن.
وهنا تكمن الكارثة!
*سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|