البريد الهندي: من كابول إلى بغداد (5)
|
* فاضل الربيعي:
لقد أصبحت تجارة الاستيراد الآن في أيدٍ محلية فارسية ويهودية بصورة رئيسية، حيث إن تكاليف عملهم ومعيشتهم الواطئة تجعلهم يقتنعون بالأرباح التي لا ينافسهم فيها رجال الأعمال الأوروبيون.
وكيل القنصل البريطاني في البصرة عام 1887م مع مطلع عام 1914م بدا البريطانيون واثقين أكثر فأكثر من نجاح حملتهم الحربية لاحتلال عاصمة الجنوب العراقي. ثم أصبحوا أكثر شعوراً بالثقة وهم يدخلون البصرة (جنوب) قبل نهاية العام. ومع هذا بدوا وكأنهم سيتمكنون من خلال عمل متقن وسريع، ويُنفذ بشكل حسن ودون كلل أو شعور بالذنب أو عوائق خطيرة، من إنجاز وتحقيق ما كانوا يحلمون به: عملية كبرى تنتهي بتهنيد العراق (من الهند) وإلحاقه نهائياً بالمستعمرة الجديدة، وذلك بإغراقه تدريجاً وبصورة منهجية ومنتظمة بطوفان من الكتل السكانية المقتلعة من الهند والبنجاب. وبوجود جيش جرار قوامه آلاف الجنود الهنود والبنغال والبلوش، وبأساليب وتصرفات مستقاة من تجربة التعامل مع السكان هناك؛ فقد تراءت العملية وكأنها تتويج لاستراتيجية لا تهدف إلى تحويل العراق إلى امتداد هندي جغرافي وسكاني وثقافي وحسب؛ وإنما يمكن كذلك، ومن خلال تقديم تصورات استشراقية إضافية موازية، تحويل بغداد نفسها إلى مدينة يهودية أو مدينة تجار يهود. وهذا حقيقي تماما. كانت عقلية الاستشراق تقوم، وبشكل فعال، بتبسيط هذه المهام الكبرى وربما بتسهيل تلقيها كنتاج تلقائي لاستخدام القوة.
هاتان الصورتان النمطيتان للعراق وعاصمته التاريخية بغداد، كانتا في الحق، في قلب العمل الاستعماري وفي القلب من وظائف الاستشراق.
ذات يوم كتب المفكر والسياسي السوري عبد الرحمن الشهبندر يقول: عندما التقيت السير مارك سيكس سنة 1917م في القاهرة وهو واضع معاهدة سيكس- بيكو، حاول أن يقنعني بضرورة احتلال العراق وسورية ليتعلم ساكنوها المدنية الحديثة والحضارة القائمة.
فقلت: وإذا لم يقبلوا هذه الحضارة بالعنف والشدة وبالرغم منهم؟ فقال: فما عليهم إلا أن يخرجوا من ديارهم إلى الصحراء وطنهم القديم.
ليس ثمة، بالنسبة لقارئ قليل التبصر بعواقب نوايا وأفكار من هذا النوع، أو غير مبالٍ بها في أفضل الأحوال أو حتى مستخفٍ بأصحابها؛ ما يعيق فهم النص على أساس أنه شهادة حية وحقيقية عن طبيعة الاستشراق ووظائفه. عمل عنيف تقوم به جماعة ضد جماعة أخرى، من أجل إرغامها على القبول بتصورات مغايرة عن نفسها؛ فهي بدائية ومتوحشة ويجب والحال هذه أن تنتقل بالقوة إلى الحضارة. ومع ذلك؛ فإن النص يقول شيئا آخر أهم بكثير من هذه الفكرة المتعجلة. إنه نص يقول بقدّر ممتاز من الوضوح، أن احتلال العراق وسورية كان ينطوي على تصور لإمكانية طرد السكان الأصليين من بلادهم ورميهم في الفراغ الصحراوي. أي تكريس بداوة أمكن الإفلات منها قبل أكثر من 1400 عام مع الإسلام وحضارته. فماذا كان سيفعل منظرو الاستشراق ببلدين يُرمى شعبيهما في الصحراء؟ فيما بعد، وكما سوف نلاحظ مع سقوط بغداد عقب ثلاث سنوات متتالية من القتال ضد العثمانيين انطلاقا من الجنوب؛ ستجري ولكن على نطاق محدود شديد الديناميكية والتكثيف، عمليات موازية لإنجاز ما يمكن وصفه بأنه عملية تهويد (من اليهودية) لبغداد التجارية. وهذه هي الصور الاستشراقية الأولى لما كان البريطانيون يرغبون في رؤيته، إذا ما رفض السكان مغادرة بلادهم إلى الصحراء، كما أراد السير مارك سيكس. يمكن لهم أن يعيشوا في عاصمة يجري تمدينها وتهويدها في الآن ذاته؟ وذلك عبر ترسيخ صورة زائفة تظهر فيها عاصمة الإسلام التاريخي، في هيئة مدينة تعج بالتجار اليهود الذين يسيطرون عليها ويحتكرون تجارتها الداخلية.
إلى جانب هذه الصورة كانت هناك صورة أخرى، قلما لفتت انتباه الباحثين والدارسين لتاريخ الاستعمار البريطاني في العراق؛ هي صورة بغداد سياسية يلعب فيها السياسيون العراقيون، من أبناء الطائفة اليهودية، دوراً محورياً في الحكومة.
لم تكن هذه الرؤى مجرد أحلام فارغة راودت الضباط المنتصرين أو داعبت خيالهم وهم يتبخترون في شوارع العاصمة، التي تركها العثمانيون تواجه وحدها قدرها بفزع، محبطة ومجروحة في كرامتها.
ولعلها، إذا شئنا الإنصاف والالتزام بوقائع التاريخ المكتوب، تصورات مبنية على أساس من نوع ما، لكنه ليس كافياً بأي حالٍ من الأحوال للرهان عليه في خطة جهنمية من هذا الطراز.
لقد لعبت البعثات التبشيرية التي تسللت مع الكولنيالية الإنجليزية منذ مطالع القرن السابع عشر، مستغلة التنافس الاستعماري المحموم بين الأوروبيين على الخليج العربي؛ دورا محوريا في إنشاء أولى الرؤى الاستشراقية عن سكان هذا البلد.
الفرنسيون كانوا أول البادئين في النشاطات التبشيرية المبكرة التي تعود بداياتها إلى العهد العثماني. آنذاك، لم يلتفت العثمانيون إلى الأهداف الخفية من وراء تسلل المبشرين الفرنسيين الدومينيكانيين والكبوشيين الكاثوليك إلى العراق، واعتقدوا أن مهماتهم سوف تنحصر في نشر المعتقدات المسيحية الصحيحة في أوساط الطوائف التي لم تتحول بعد إلى الكاثوليكية. ثم سرعان ما بات العراق مسرحا للتنافس بين الفرنسيين والبريطانيين حول التبشير المسيحي وفي نطاقه.
في العام 1829 وصل أول مبشر بروتستانتي للعمل في معاقل الكاثوليكية في البصرة والموصل وبغداد. كان جروفز بروتستانتيا متحمسا تاق لرؤية رعايا الكنيسة الكاثوليكية في البصرة وقد تحولوا نهائيا إلى البروتستانتية. ولكن حروب داود باشا سرعان ما دهمته وأرغمته على ترك العراق إلى الهند.
كان يهود العراق في ظل التبشير المسيحي قد أصبحوا أفضل ميدان من ميادين التنافس الفرنسي - البريطاني. لكنهم سرعان ما أصبحوا عرضة لضغوط شديدة مصدرها الحقيقي، كما ارتأى بعض المؤرخين مثل عبد العزيز نوار ما يُزعم أنه اشتراك لبعض اليهود في مؤامرة ضد سعيد باشا والى بغداد 1813-1816م. في نطاق هذا التنافس استغل القنصل الفرنسي فونتانييه الفرصة وقرر خوض حرب مكشوفة ضد منافسيه البريطانيين، من أجل بسط الحماية على أكبر عدد من اليهود العراقيين.
وكما لاحظ نوار؛ فإن يهود العراق أبدوا بعض الترحيب في هذه الآونة، بوجودهم في ظل حماية دولية من أوروبا. بيد أن حدة التنافس البريطاني- الفرنسي حول اليهود سرعان ما هدأت مع رحيل فونتانييه المفاجئ. وعندئذٍ سارع البريطانيون إلى حصر بعض النشاطات التبشيرية كليا في أوساط اليهود، حيث تولت جمعيات بروتستانتية عدة أمرهم.
في العام 1836 وقع تطور مثير بدا وكأنه خارج سياق الاستراتيجية البريطانية؛ إذ اصطدم كبار رجال الدين اليهود في البصرة مع مبشر بريطاني بروتستانتي بسبب محاولاته المستميتة لإقناعهم بالتحول إلى البروتستانتية، الأمر الذي حمل الوالي في بغداد على إبعاده من العراق. بعد فشل البريطانيين في العمل مع يهود البصرة، تولى المهمة عدد من المبشرين البولنديين الذين زعموا أنهم تحولوا من اليهودية إلى المسيحية، لتظهر اعتبارا من هذا الوقت جمعية (اليهود المتحولين) ولتصبح بسرعة واحدة من أهم الجمعيات في الجنوب العراقي.
في هذا الإطار جاء نشاط شركة بيت لنج التي لعبت دورا بارزا في تعزيز المصالح التجارية البريطانية والنفوذ البريطاني.
كان الدين والتجارة يلعبان بشكل متوازٍ الدور نفسه، فهناك إلى جانب شركة بيت لنج، وربما بالتعاضد معها، شركة كري مكنزي التي تأسست في البصرة ومارست تجارة تصدير الحبوب والتمور واستيراد البضائع من الهند وبريطانيا، إذ كانت وكيلا لشركة الهند الشرقية الإنجليزية. أما في بغداد فقد كان النشاط التجاري يشهد تغلغلا للبريطانيين لا سابق له.
يقدّر محمد حسن سلمان أبرز اقتصاديي العراق الكلاسيكيين في دراسته الرائعة (التطور الاقتصادي في العراق: مئة عام من التجارة الخارجية 1864-1958، الجزء الأول) عدد اليهود العراقيين بنحو 135 ألف يهودي حتى عام 1948، وارتأى سلمان أن المجتمع التجاري اليهودي في بغداد خلال عامي 1878-1879 كان يسيطر بالفعل على جميع أشكال الاستيراد من إنكلترا، بينما كان التجار المسيحيون يتاجرون مع فرنسا. من بين أهم هذه المؤسسات التجارية اليهودية في بغداد مؤسسة شاؤول حيوليم حسقيل، ومؤسسة صباح سلمان ساسون وشركاه، ومؤسسة عبودي جزري أخوان.
أما التاجر المسلم الوحيد في هذا الوقت فكان محمد سعيد الشابندر. واستنادا إلى تقرير وكيل القنصل البريطاني في البصرة عام 1887 فقد أصبحت تجارة الاستيراد الآن (في أيدٍ محلية فارسية ويهودية).
في عام 1936 كانت هناك عشرون عائلة يهودية يعمل رجالها كوكلاء لاستيراد الشاي من بين 44 عائلة تسيطر على هذه التجارة، بينما كانت هناك 6 عائلات مسيحية فقط و18 عائلة مسلمة. أما في تجارة المنسوجات فقد كان هناك نحو 111 تاجرا يهوديا مقابل 37 تاجرا مسلما. في هذا الوقت وخلال الفترة 1909-1911 أصبحت بريطانيا العظمى والهند تجهزان ثلاثة أرباع قيمة مستوردات العراق السنوية من الشاي.
وبحلول العام 1908 أصبحت معظم تجارة التصدير في يد البريطانيين في حين تمركزت معظم فعاليات التجارة المحلية في يد اليهود، كما كانت أعمال الصيرفة في يدهم أيضا، وهو ما أثار حنق وغضب التجار العراقيين.
بعد احتلال بغداد شهد العراقيون تدابير تعسفية وفظة طالت كل مرفق في العاصمة تقريبا.
بيد أن الإجراءات الأكثر قسوة في هذا الوقت، كانت تلك الخاصة بالتدابير المالية، حيث الضرائب تجبى من السكان المحليين من أجل بناء ملاجئ آمنة لجنود الاحتلال، وهو ما عدّ محاولة لدفع السكان إلى الإفلاس المالي، والشعور جماعيا بأنهم تحت رحمة من وعدوهم بالرخاء من دون كثير أمل.
وبلغت التدابير التعسفية ذروتها عندما أجبر السكان على التبرع لصنع تمثال للجنرال مود.
في مطلع عام 1918منحت السلطات البريطانية احتكار بيع الخمور المحلية في مدينة البصرة لتاجر يهودي مقابل عشرين ألف روبية شهريا. وفي هذه الأثناء كان البريطانيون يشجعون علناً رعايا هنود بريطانيين على مد نفوذهم التجاري شمالا حتى الموصل.
ومن بين هذه الشركات شركة يديرها عراقي - بريطاني من أصل هندي هي شركة عبدالعلي أخوان.
وفي هذا الصدد كان القنصل البريطاني العام في بغداد يرسل إلى لندن مع مطلع عام 1909 كتابا يرى فيه: إنه سيكون من مصلحة التجارة البريطانية كثيرا إذا حصلنا على امتياز لتسيير السفن التجارية في نهر الفرات. إن تجربة نهر دجلة تظهر كيف أن تحسين وسائل المواصلات يخلق ثروة.
لم يكن التركيز على الفرات أمراً بريئاً تماماً، أو خاليا من المقاصد والأهداف الأخرى خارج نطاق مسألة جني الفوائد المالية. لقد كان تعبيرا عن فكرة مزوجة تصعب رؤيتها من دون تشكيك بظلالها الدينية أو الأسطورية. لا ريب أن نهر الفرات كمصدر من مصادر الملاحة الجديدة التي تحتاجها الإمبراطورية البريطانية، يشكل طريقاً مفتاحياً أمام الطريق البحري نحو الهند، لأنه سوف يعيد ربط لندن بدلهي عن طريق الخليج العربي، ويساعد في تسريع وصول البريد استطراداً.
لكن الفرات من منظور موازٍ كانت له قيمة رمزية وروحية بالنسبة للمنظرين (اليهود) في إدارة الاحتلال البريطاني، إذ يستند هؤلاء - في بعض الأوجه الخفية للفكرة - إلى نصوص توراتية يُزعم أنها ذكرت الفرات بالاسم (افرة - بالعبرية).
في هذا الوقت، من الواضح أن الصور التوراتية الشيقة عن البدو، آخذة في إلهاب خيال كثرة من السياسيين البريطانيين، وبشكل خاص خيال رئيس الوزراء البريطاني جورج لويد. إن لويد الذي أصبح محامياً للحركة الصهيونية ولهرتزل شخصيا، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، هو من بين أكثر السياسيين البريطانيين الذين كانوا يعرفون أسماء الأماكن والمدن في التوراة، بأكثر مما يعرف أسماء المدن في أوروبا على حد تعبير مؤرخي سيرته.
بلغ هوس المحامي السابق للحركة الصهيونية في بريطانيا، ورئيس وزرائها تاليا لويد جورج، بالتوراة وبالأسماء الواردة فيها حداً مثيراً لا يضاهيه ربما سوى الاستخفاف بالتاريخ نفسه، مقارنة بنصوصها التي كانت في نظره بمنزلة الوثائق والمستندات. كانت التوراة في نظره وثيقة تاريخية أهم من التاريخ وربما أكثر صدقية منه.
ولذلك تراءى الفرات في مخيال لويد كما لو كان هو النهر نفسه الذي عبره داود عندما طارد الإرميين - الآراميين بحسب ضبط المستشرقين وإرميين استنادا إلى ضبط القرآن - على هذا النحو بدت له السفن البريطانية وهي تمخر مياه النهر المقدس كما لو أنها سفن سليمان بن داود. وسوف يكون لهذا الخيال أثره البالغ في ترتيب زيارة الشخصية الصهيونية الفريد موند إلى بغداد. في هذا الوقت وقبل ثلاث سنوات من سقوط بغداد، اقترح المقيم البريطاني فيها على السفير في استانبول، ضم الموصل إلى دائرة النفوذ البريطاني.
ولاحظ في اقتراحه أن السبيل إلى هذا الضم يمر عبر استخدام الجمعية الكنسية التبشيرية وجمعية الإسكان اليهودية. وضع الإنجليز؛ وتحسبا لانهيار علاقاتهم مع استانبول عشية الحرب العالمية الأولى، خطة مفصلة ومحكمة لاحتلال البصرة ثم ضم الموصل من خلال استخدام طاقة وإمكانية جمعية الإسكان اليهودية على التغلغل في أوساط السكان وفي الإدارة العثمانية. لكن حكومتي لندن والهند رأتا أن الخطة يجب أن تكون جزءاً من خطة حربية عامة ضد الإمبراطورية العثمانية لا مجرد خطة جزئية تخص اقتطاع إقليمين.
في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر عام 1914 تحرك البريطانيون باتجاه البصرة من خلال الفيلق الأول من القوات الهندية. بعد نحو شهر سقطت البصرة (22-11-1914). في اليوم التالي دخل المقيم البريطاني في الخليج العربي السير برسي كوكس إلى المدينة كرئيس للحكام السياسيين البريطانيين في العراق. في هذه الأثناء كانت القوات البريطانية تستكمل زحفها إلى الشمال من المدينة في منطقة القرنة ثم باتجاه العمارة. بيد أن الحملة سرعان ما تعثرت في الكوت. وتطلب الأمر نحو ثلاثة أعوام أخرى قبل أن تتمكن قوات الاحتلال من الاستيلاء على بغداد.
يروي شاهد عيان عاش لحظات سقوط بغداد في قبضة الجنرال مود، لحظة بلحظة، كيف أن الإنجليز عمدوا إلى ضرب ركائز التجار الداخلية وتفكيكها من اجل إعادة إنشاء شبكة تجارية يسيطر عليها اليهود.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|