من الحقيبة التشكيلية انقاد الكثير لشروطها العولمة طمس لثقافات الشعوب وتغييبها جهل بعض الفنانين وتبعيتهم أوقعتهم في المصيدة
|
إعداد: محمد المنيف
لم تعد صفة العالمية وقفا على الأنشطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بقدر ما شملت العطاءات الإنسانية المتمثلة في الأدب والفكر والفنون على مختلف تنوعها فأصبحنا نسمع ونردد خصوصا في مجالنا التشكيلي أن فلانا فنانا أو أديبا عالميا خصوصا إذا كان بالفعل يستحق تلك الصفة نتيجة تواجده الدولي ونشر إبداعه في مختلف أقطار الدنيا أو في ابرز الدول الكبرى التي تعنى بالفنون والثقافة منها فرنسا وأمريكا والصين إلى آخر منظومة المدن التي لها أهميتها وموقعها التاريخي في هذا المجال المستقطبة للدارسين والمثقفين والفنانين الممتلكة مقومات اطلاق الشهرة العالمية لكل من يصل إلى قاعات العرض في متاحفها باستمرار، موجدا بذلك جسرا من التواصل مع حركتها الدائبة مع العالم وقناعة الآخرين بالدور الحقيقي لتلك الدول في منح صفة العالمية لمن يلج بواباتها الثقافية مع ما قد يتبادر إلى أذهاننا في أول وهلة عند سماعنا لكلمة العالمي أو العالمية من قضايا اللغة والموقع الجغرافي والخروج بتلك الدول إلى مساحات أكثر تباعدا عن مجتمعنا نحو مجتمعات لها من الثقافات واللغات ما يختلف عن واقعنا مع الأخذ في الاعتبار الزيادة وليس النقص دون الاعتقاد بأنها الأفضل لئلا ننساق وراءها لكسب الاتصاف بها وأحيانا اتباعها دون الحذر من خطورتها.
موضوع العالمية أثاره احد الشباب ممن يمتلكون هواية الرسم (وليست موهبة) أقام له معرضا في الرياض قبل فترة ليست قصيرة ومع انه لا يفقه من الفن إلا ممارسة الهواية بكل فطريتها مع جهله بأقل معلومة أو معرفة بالمدارس الفنية أو الأساليب وهذا اعتراف مباشر منه جعلني احترمه لصدقه وصراحته دون تغليف أو تبطين كما يفعلها بعض التشكيليين ممن يدعون الثقافة التشكيلية وهم ابعد ما يكون عنها، هذا الشاب قال في سياق حديثه معي موضحا أنه يقدم أعماله لأول مرة للجمهور بعد إلحاح من الأقارب الذين شاهدو تلك الأعمال في منزله ورغم أنها البداية إلا أن هناك من الجمهور وليس النقاد من جامله بالقول ان أعماله حققت (العالمية) مع انه لم يقم أي معرض خارج او داخل الوطن خلاف ذلك المعرض اليتيم والمتعدد الأساليب والتجارب البسيطة غير الناضجة، هذه الصفة التي كشفت السعادة في عينية المشعتان بهذه السرعة مع ما رافقها من أسلوب كشف مدى اغتباطه بتلك العبارة وترديده لها جعلتني اطرح التساؤلات في داخلي (ماذا نعني بالعالمية)؟، هل هي هدف، هل نستطيع كسب هذه الصفة من خلال سبل التواصل والتقنيات الحديثة والسريعة مع الآخر، ثم هل هناك مقاييس أو مواصفات أو قيم متفق عليها عالميا لتحقيق هذه الصفة خصوصا في مجالنا التشكيلي وهل يشترط على من يريد اكتسابها أن يلغي ويطمس معالم انتمائه وتأثره بمحيطه المحلي وينتهج الأساليب الغربية طبقا ما فعلته الأسماء العالمية ليكون عالميا وما القواسم المشتركة بين العالمية والعولمة.
العالمية والعولمة
نظرا لوجود خلط بين العالمية والعولمة مع إمكانية وجود علاقة مصالح بين هاتين الصفتين فالعولمة التي أراها حسب مفهومي هي خلط لأوراق الثقافات وإعادة تشكيلها بناء على رغبات تهدف إلى إذابة الانتماءات الفكرية والبصرية فأصبحت وترا يعزف عليه الغرب في كل المحافل الثقافية للهيمنة على الآخرين، أما العالمية فتتمثل في الانتشار وليس غير ذلك ولنا في فنون الصين بشكلها ومضمونها واليابانية والمكسيكية والإفريقية انها عالمية لتخطيها المحلية ووصولها إلى ابعد نقطة على الخريطة لتصل إلى كل متلق في أقطار الدنيا مع احتفاظها بالروح والتمسك بمكان الولادة والمنشأ والشكل والبعد الفلسفي والبيئي، وكان لي حول موضوع التأثر والتأثير والمد الغربي تجاه الفنون الصينية حديث مع احد الفنانين الصينيين الذين شاركوا في معرض أقيم في الرياض مجيبا بقوله (هناك تخوف من هذا التوجه على الفنون الصينية إلا انه علل عدم الشمولية أو الطمس إلى عمق جذور الفن الصيني).
شروط الاتصاف بالعالمية
لهذا علينا ان نتعرف على تلك المصالح المشتركة بين العولمة والعالمية كنهج يعتمد كما قلنا على إذابة الانتماء لنتفادى السقوط المتوقع في حال اعتبار العولمة تقليد الغرب وانتهاج نهجهم واتباع أساليبهم الساعية لطمس الثقافات ذات الجذور الأصيلة لتكون شرطا من شروط تحقيق العالمية خصوصا في هذه الفترة الخطرة من تاريخنا المعاصر عكس ما كانت عليه سابقا حينما كانت الفنون تنبع من الواقع وتنقله إلى الآخرين دون توقف عند مرحلة معينة أو تدخل في الشكل والمضمون بل بالتحرك نحو التطوير والتجديد ولنا في تاريخ الفنون الإسلامية والعربية الكثير من الشواهد كانت ولا زالت مرجعا هاما للدارسين الغربيين في مجالات الفنون البصرية بما تكشفه من نقلات وتحولات نحو الجديد دون الإخلال بالمصدر أو الفكرة أو الهدف.
الخروج من الحيز المغلق
إذا فالعالمية هي العلاقة المتكاملة عقلا ووجدانا مع الآخرين ونقل إبداعنا بكل أشكاله ومضامينه وطرق أدائه من حدوده الضيقة الخاصة إلى العامة أو العالمية، عودا إلى ما تقتضيه العالمية من الوصول إلى البعد الجغرافي والثقافي.
ومن هنا وكما اتفق عليه الكثير من أرباب الفكر والأدب والفنون أن العالمية تعني الانتشار ولن يكون لأي نتاج إبداعي أي أهمية عالمية ان لم يخرج عن حدوده الإقليمية أو المحلية مع الاحتفاظ بتلك القيمة الجوهرية المرتبطة بالايدولوجيا.
استجابة بعض الفنانين للعولمة
واذا كنا جميعا نبحث عن العالمية بمختلف السبل فان علينا أيضا كبح اندفاع بعض الفنانين وتبعيتهم لسماع الرأي الآخر القادم بكل مساوئ أهداف العولمة ووضعها طعما لفنانينا مقابل منحهم صفة العالمية بما يقدمه أولئك المتصيدون من نقاد وكتاب من إشادات بالأعمال التي تتوافق مع أهدافهم وتتم بناء على شروطهم المسبقة والمبثوثة صوتا وصورة عبر مختلف سبل الثقافة السمعية والبصرية وفي مختلف المعارض العالمية أو المعارض التي بدأت تغزو العالم العربي ومن أهم تلك الشروط أن يكون المنتج الإبداعي مطابقا للهدف الأهم وهو طمس الثقافة المحلية وتجريده من اي ملامح تؤكد وتؤصل الانتماء للتراث والموروث الذي ولد الفنان في أحضانه وحينما يتم هذا الانسلاخ والتجرد تسعى تلك الجهات لنشره بمختلف وسائلها الإعلامية ليصبح عالميا.
شروط صفة العالمية
لهذا فإن علينا عند البحث عن العالمية الحقيقية في مضمونها المعروف أو المتداول اشتراط وجود الجوهر الأصيل الذي لا يقبل التبدل أو الانصياع لعالم مجهول في العملية الإبداعية، فهناك نماذج إبداعية عربية مع أنها قليلة أجبرت الآخر على الاعتراف بها عالميا نتيجة احترامها لجذورها وفرض مكانتها مع قبول التجديد والتطوير دون المساس بتلك الثوابت، مع ما يقابلها من أعمال لفنانين منحوا صفة العالمية من منطلقات إيديولوجية صرفه نتيجة اكتسابهم تعاطفا عالميا أضفى عليهم هذا اللقب مع أن أعمالهم لا ترقى من حيث القيمة الفنية إلى الحصول على تلك الصفة خصوصا في حدود محيطنا العربي مقابل أعمال متميزة لم يحالفها حظ الحصول على اللقب لعدم سعيها إليه بتوجهه نحو التغريب ولم ترضخ لتحقيق شروطه غير المقنعة.
الساحة المحلية وفيروس العولمة
لا يمكن لأي متحدث عن الساحة المحلية وعما حدث لها من تأثيرات أن يطلق أحكامه على مستوى ما تحقق لها وما شابهها من تغير وتبدل الا اذا كان متابعا وراصدا بشكل مباشر ولديه الكثير من سبل توثيقها، فقد أخذت الساحة المحلية بالتشكل والتبلور في وقت مبكر وسريع ابتداء من مرحلة الابتعاث لبعض الدارسين ممن عادوا ونشروا في الساحة أعمالهم التغريبية أو الحديثة كما أطلقوا عليها مرورا بما يطرأ على أساليب التحكيم وتغير توجه المحكمين أو من يديرهم تجاه نهج أو أساليب معينة وصولا إلى مختلف التقنيات والقنوات الإعلامية والمعرفية التي أصبحنا نطل من خلالها على العالم ونستلهم منه الجديد، هذه المؤثرات مع أنها تعتبر جزءا من كثير كان لها أثرها وتأثيرها وسطوتها على الساحة، فبعد ان كانت الجوائز تمنح لمن يستلهم التراث بواقعيته وصولا إلى بلورة هذا التراث وتوظيفه بشكل معاصر، أصبحنا نشاهد جوائز لأعمال مفاهيمية ليس لها شيء من الانتماء لواقعنا ولو بالإشارة ومع أننا لا نقبل التطرف من الطرفين لا إلى الواقعية التسجيلية الساذجة ولا إلى المفاهيمية التي تظهر ما لا تبطن بقدر ما نسعى للامساك بمنتصف العصا في التعامل مع إبداعنا مع ميل لتأكيد أصالة مصادر استلهامه.
ورغم ما يسعى إليه الكثير في نبذ أي خروج عن سرب الانتماء، إلا أن فيروس العولمة اخذ مكانه في جسد الساحة المحلية والخليجية رغم قلة الإصابات في حدود يمكن السيطرة عليها وحجرها بعيدا عن البقية المستهدفة وهم فئة الشباب من الفنانين والفنانات ممن لا يملكون المناعة، وقد برزت الكثير من هذه الأعمال في عدد من المعارض الشخصية المحلية مقابل تواجد مهمش في المعارض الجماعية كشفت ضحالة توجه هذه الفئة وقصور فهمهم لحقيقة ما يتعاملون معه من تلك الأساليب نتيجة القصور عند حديثهم عن منجزهم والتردد في الإجابة عن أي سؤال يطرح عليهم، فما يقدمونه من أعمال تقع خارج حدود الفكرة أو الهدف، لا يتعدى البحث فيها سبل استفزاز المشاهد ودفعه للاستهزاء والتهكم وهو الهدف الذي يريد من خلاله أولئك الفنانون إرضاء الذات لديهم، تلك الفئة القلية جدا سبقها أيضا محاولات أخرى لفنانين توقعوا في أن في خروجهم عن المألوف في أعمالهم ما يجعل لهم خصوصية من بين البقية وان لديهم من البعد الفكري تجاه الفن أكثر مما يمتلكه من يبحث عن إبداع له جذوره نابع من أرضه ووطنه مع ما يضفيه من خبرات وتجارب حديثة تتوازى مع إبداع الآخر دون الانجراف في تياره، هؤلاء استدركوا الموقف وعادوا إلى صوابهم ومنجزهم الرائع بكل ما تعنيه الكلمة.
قبل الختام
ما يشاهد من أعمال لنخبة من التشكيليين المحليين قادرة على أن تكون عالمية وان يكون لها موقعا في كل متاحف الدنيا ولكن الأمر يتعلق بالوصول بها إلى الآخر والى أعين العالم فالفنانون لا يملكون ما يمكن ان تحققه الجهات الرسمية من سبل التواجد العالمي وتسخير الجهات المماثلة الأخرى في العالم عبر تعاون ثقافي يتيح للأعمال التشكيلية السعودية الوصول إلى اعين تلك الشعوب، كما وصلت إلينا فنونهم وأعمالهم الفنية.
أخيرا يقول (أرسطو): العالمية هي إشعاع إنسانية الإبداع في الكون.. وشعور كل الشعوب باختلاف مواقعهم الجغرافية بأن هذا النتاج الإبداعي يعبر عنهم وذلك بمنح هذا الإبداع جغرافية بعيدة المدى تحقق له القيمة الإنسانية العظيمة والعالية ليستحق ان نقول عنه: انه نتاج عالمي.. وما دون ذلك فالمصطلح يظل مثيرا للتساؤل والمساءلة.
monif@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|