قصة قصيرة الحارة العجيبة عبدالواحد الأنصاري
|
في كل حقبة من التاريخ تظهر طفيليات غريبة تحاول الاستيلاء على مقدرات الآخرين.. لكنها تُكنس في النهاية.
الأنوف تتمشى في الشارع، مثنى مثنى أو جماعات ولا تمشي فرادى، إنها فضولية ومتسلقة وانتهازية، ويصيب بعضها بعضاً بالعدوى في طرفة عين. أسماء تحب زيوت النباتات، تمسح إبطيها وجبينها وعنقها بزيت له نكهة الثوم، وتعقص شعرها على جديلتين، وتتمضمض بغسول له نكهة قمر الدين، وترتدي على ذلك كله عباءتها، ثم توقظ طفلها العنيد. كان الدرج يفوح بروائح قديمة وحديثة ممتزج بعضها ببعض؛ ففي الليل تلجأ القطط والكلاب التائهة إلى الأسطح هرباً من تجمعات الأنوف التي تتسلطن في الظلام، تبول على الأسيجة وعلى حواف الجدران، وترمي بغائطها في المكان المتاح، أما سكان الشقق فلا يملكون إلا أن يفتتحوا أبوابهم في الليل ليفرقوها بعصي المكانس. صوت دينمو الماء يصم الأسماع، والغبار يتزحزح شيئاً قليلاً تحت وطأة الأقدام الأربعة. تشبثت أسماء بيد طفلها العنيد بيمناها، وباليسرى تحمل وعاء الزيت الأسود. أمام البيت غبار كثيف خلفته عاصفة هبت قبل يوم ونصف على وجه التحديد، وفي الزقاقات فلول من أنوف تفرقت خارج جحورها، وراحت تتشمم الجدران وترتد عنها بخيبة باردة، الوقت عصر، والمتاجر يقف أمامها أصحابها في انتظار صفير الإغلاق، مر أنف متعجل من بين يديهما فركله الطفل، وأحكمت أسماء عباءتها بحرص وكأنها تحزمها على نفسها. وضعت أمام البائع علبة الزيت الأسود، وغمس فنجانه في الزيت ليملأه، ثم خلع قفاز النايلون وسحب دجاجة باردة من الثلاجة، احتشدت عشرات الأنوف على متجر السمك فشرع يغلقه قبل أوان الصافرة، وأقبلت أعداد أخرى لتداعب حذاء رجل المرور فأدار محرك دبابته وغادر، تفرقت في السماء غيمة سوداء لتصبح غيمتين وكأنما هي خلية منقسمة، وفي المزرعة كان أبو أسماء على فرشته القديمة يقرأ أوراد المساء، يمد رجليه ويصب عليهما دورقا من الماء ليتجمع عليهما الذباب ويطفئ ظمأه قبل حلول الظلام، مالت الشمس إلى تقبيل الثرى، وفي الشقة المقابلة دلف عمران إلى غرفته فوجد في انتظاره ما لذ وطاب: سطل الماء، والكتاب الذي لا تنتهي صفحاته إلا بعد مليون عام، ورائحة طلاء زيتي منعش، أغلق عمران الباب خلفه فاكتنفته الظلمة، وراح يقرأ في كتاب الوعظ، قال الكتاب: تخيل نفسك يا عمران وأنت تحت الثرى والأنوف تتشممك والديدان تنهشك، غضب عمران من الكتاب وغمسه في الماء حتى كاد يفقد روحه، ثم أخرجه وقال له: لن أكون في القبر أسوأ منك حالا الآن؛ دافع الكتاب عن نفسه فحمل عمران وألقى به في السطل، فأخذ عمران يتخبط، ومرّت أمامه أطياف لنساء راقصات وأطفال يغنون بأجمل الألحان، ورأى أشراط الساعة كلها، سحب الطفل العنيد يده من يد أمه، واندفع يركض وهو يضحك من شدة الفرح، فدعسته سيارة مسرعة، وتدفقت الأنوف المتطفلة على جراحه وعبرت بينه وبين ثيابه، صرخت أمه من الفزع وألقت بعباءتها عنها؛ فشاعت في الفضاء نكهة الثوم والخردل وقمر الدين، تدفقت الطفيليات القميئة وقطعت الشارع مخاطرة بأرواحها الرخيصة، بعضها كان يعطي الأشجار فقفز، ورأى العطار ما يجري فبدأ يحرق البخور لعله يجذب إليه شيئاً من هذه الأكوام المتسلطة، وأقبل الأطفال بعصي المكانس يضربون تلك الكائنات وينزعونها عن المرأة المضطهدة والطفل القتيل، وما هي إلا لحظات وانكشفت أسماء نصف لابسة، وتفرق شعرها ذو الجديلتين أيدي سبأ، كان أبوها قد عاد من المزرعة إلى الشقة منذ قليل وهو يفكر لابنته المطلقة في حل مفيد، وليس ذلك بجديد عليه. فتح المذياع وكانت إذاعة لندن مشوشة، فراح يضرب الجهاز على جنبيه لعله يصفو، وفي الوقت نفسه كان الموت في الشارع العام يحصد أرواح الأعداء مثل مكنسة كهربائية لا نظير لها في الكون.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|