ثقافة الإصلاح محاولة للفهم د.زهير محمد جميل كتبي
|
هناك.. (موضوعات في الشأن العام).. لا يسمح أدبي وأخلاقي المهنية، وقيمي الإسلامية أن أتناولها ضمن كتاباتي الصحافية وفي ظل مفردات الصحافة بالمناقشة والحوار؛ وذلك احتراما وتقديرا لهيبة وطني ومكانته أمام إخواني من أبناء الشعب. أقول هذا كمثقف حر ومستقل؛ لأن الوطن فيه الوحدة، وفيه الطموح، وفيه الاستقرار، وفيه الطمأنينة، وفيه المودة، وفيه السكن، وفيه الرحمة. ولأن.. (الوحدة الوطنية).. هي القضية المركزية بين الوطن والحاكم والمحكوم والأرض. وقوتنا كمثقفين وكتاب نستمدها من هذه الوحدة. وهذا التماسك الصلب والمتين. وبعض الكتابات قد تستفز الوحدة الوطنية؛ لأن تلك الموضوعات - ربما - تضرب في العظام، بل في النخاع ذاته؛ فلقد تعلمت من فكر تراثنا الإسلامي، كيفية مخاطبة ومناصحة ولي الأمر، وتقديم النصيحة له بما يكفل هيبته ووقاره، وعدم التطاول عليه، وخاصة أمام الملأ. والكتابة الصحافية هي نوع من أنواع المناصحة المعلنة، وإن كان من آلياتها فعل.. (الإثارة)..
إن (الإصلاح) لا يكون بمواجهة ولي الأمر أمام الملأ في - بعض الأحايين - بل الأرقى والأفضل والأجمل أن يكون في الاتصال به مباشرة والتحدث إليه، أو الكتابة المباشرة له. ولكنه ليس من ضرورات البقاء والاستمرار والأمن، كما يظن بعض العسكريين، وبعض علماء السلطة المتسولين، والذين منحوا أنفسهم سلطة الفتوى في الفعاليات السياسية بهدف ادعائهم الإخلاص للسلطة ولكن على حساب المثقف؛ فالبوح بتلك الموضوعات يكون في تقديري في مكان مختصر لأبوح بما لدي في بعض.. (مسائل وقضايا في الشأن العام)..، والتي تدخل في نطاق الخطوط الحمراء، غير أن أسلوب.. (الرسائل).. والذي وجدته من أفضل وأرقى الأساليب الفاعلة والسريعة للكتابة لولي الأمر فيما يتلعق بالإصلاح. إنني أطلب من الحاكم شيئا معقولا لا مستحيلا. الحاكم خير من يعرف أن من حقنا كمثقفين وكتاب أن نلوم وأن نعتب وأن نطالب بما يخدم المصلحة العامة والعليا للوطن، وفق الآداب العامة وفي ظل آداب الحوار. وإنني إذا أفهم الحرية التزاما. وأعي أن الجرأة لا تعني التطاول على الحاكم، وأعرف أن الشفافية لا تتناهى بالوقاحة، وأدرك أن للحوار حرمة، ولكن في الأخير لا بد أن أقول ما لدي من أجل الوطن والمواطن، واتحمل وتحملت كل التبعات والعقوبات التي ترتبت على ذلك البوح. ومواقفي في هذه الحياة من اختياري، أما مقاديري فهي من الرحمن الرحيم. هكذا أفسر الحياة وتفاعل الإصلاح معها.
والواقعية في هذه المرحلة مطلوبة. وأعرف كغيري أن.. (الحاكم).. يقوى بالحق عندما يعرفه. وعرفت أن الحاكم لا يطرب بالثناء المزيف، ويستاء من الهجاء لكنه لا يرفض.. (الحقيقة).. التي تروض الانفعال والحماس، والحاكم يتحمل ما لا يتحمله أحد من النقد وثمة رغبة للتفهم، بأن.. (المسألة الوطنية).. هي مسألة مشتركة بين.. (الحاكم).. و.. (المحكوم).
والحاكم اليوم يقود.. (قافلة الإصلاح).. في العلن، وأنا وغيري نفهم ذلك جيدا، لذلك نضع أيدينا مع يده الإصلاحية؛ لنسير في الاتجاه نفسه؛ لنكون خير معين على ما فيه خير المجتمع السعودي - إن شاء الله -. وكم هي جميلة ورائعة وحضارية، تلك الجملة الملكية التي نطق بها الملك عبدالله بن عبدالعزيز حين قال - قواه الله - في كلمته المشهورة يوم تقلد مقاليد الملك في بلادنا: (إني أريد منكم أن تشدوا أزري بالنصيحة والمشورة والدعاء).
والله لقد سررت، وعشت حالة سعادة عالية السقف؛ بسبب هذا النص الحضاري، والذي ذكرني وربما غيري بنصوص خطب تولي الخلفاء الراشدين مقاليد الحكم، الذين قالوا وفعلوا ما قالوا؛ فنص عبدالله بن عبدالعزيز نص مشجع للإصلاح، وبدء النصيحة عادة يكون بما تمليه أخلاق وقيم وقواعد النصيحة والإصلاح.
إن الحوار هو تقسيم هندسي حضاري يرسم ويوضح العلاقة بين.. (الراعي).. و.. (الرعية)..، والثقافة الواعية هي التي تقدر على صناعة.. (الحوار).. بين الراعي والرعية. والثقافة لا تفسد، وليس هناك.. (ثقافة فاسدة)..، إنما هناك.. (مثقفون مفسدون)..، وهذا المثقف الفاسد هو القادر على إفساد العلاقة بين الراعي والرعية. هذا التفكير الثقافي الذي يصنعه المثقف الفاسد، إنما هو أكبر قدرة على إثارة الفتن، من تفكير الإصلاح؛ لأن التفكير الإصلاحي يرفض هكذا ثقافة تفسد العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وهذا المثقف الفاسد إنما هو ميت ثقافيا واجتماعيا ووطنيا سواء في داخل الدائرة الثقافية أو في خارجها. ومتى اعتاد.. (الحاكم).. على ثقافة الفساد؛ فإنه يستسهل اتهام المثقف الوطني الحر بالفساد. وهذا ما يجعل المثقف المصلح يذوق مرارة العلقم بكل الألوان والأشكال.
وقد يستغل بعض الكتاب والأدباء والمثقفين غضب الحاكم على.. مثقف ما.. فيعهدون بأقلامهم إلى جعل الكتابة الصحافية.. (تصفية حسابات).. لما بينهم من خلافات وخصومات، وفي حالات يكبر بعض المثقفين وتكبر أحقادهم وضغائنهم أكثر، وأصبحت قدرة أولئك المثقفين أقوى على الحقد منها على التسامح والمسامحة؛ لأن حواسهم غير مدربة على التسامح، والمصالحة والمصافحة. ونسوا - بقصد - أن الجميع في هذه الحياة ولد وأرجله في رمال الصحراء. وتغافلوا - بقصد وسوء نية - أن الوطن للجميع.
الإصلاح بحد ذاته هو محاولة للتأثير على إرادة التقدم والتطور والتحضر، إما بإرادته واختياره عن طريق.. الحوار.. والمناقشة، وربما.. (المجادلة).. في كثير من الحالات؛ لأن الحوار هو أقوى آليات الإصلاح، ويفسد إذا وقع تدخل في وظيفته، وهي الدعوة للإصلاح؛ لأن عادة الحوار الإصلاحي أن يبحث عن إجابة مقنعة، وتستبعد تلك الأجوبة أي دعوة منفعية.
غير أنني أجزم أن حركات الإصلاح عادة ما تواجه من قوى معارضة، تعمل على فشل الحوار، وبالتالي تتصدى للإصلاح؛ فيدخل.. الإصلاح.. في حالات.. (المواجهات، والمراوغات، والمماحكات، والمماطلات، والهروب من الواقع).. ربما تقع هذه العمليات بأفكارها عند اللحظة الحاسمة للاقتناع بأهمية الإصلاح.
صحيح أن (الإصلاح).. فتح أبوابه في الوطن العربي تدريجيا، وعبر أسلوب.. (الحذر الشديد)..، بل وباستحياء شديد، بيد أن.. (الخوف).. تقدم الحذر والاستحياء. لكن رغم ذلك تحركت الكثير من العمليات الإصلاحية، ولكنه تحرك بقدر بسيط يدفع بالمياه نحو الحراك البسيط.
والتحرك الثقافي والسياسي والاجتماعي كان إما بقول عبر الفضائيات الهوائية، أو كتابة عبر الصحف والمجلات، أو بكتابة كتاب مستقل، وإما بفعل غير مؤثر في الساحة، مثل الصراخ والعويل في المجالس الخاصة والعامة. أو التحدث في الساحات العامة أو في مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية والدينية. ولكن ضرورات الثقافة الإصلاحية كانت تستدعي الاهتمام بذلك الحراك المختلف.
فحسابات ثقافة الإصلاح تختلف من مجتمع لآخر، ولكن قواعد وأخلاق وقيم الإصلاح ثابتة لا تتحرك مهما اختلفت الثقافات. والعودة لقراءة شيء من أدبيات الإصلاح القديمة والحديثة والمحلية والإقليمية والعالمية نجدها ثابتة وتصب في منبع واحد هو مصلحة الإنسان.. والارتقاء بإنسانيته، واحترام وتوقير كرامته.
وعادة تعمل.. (السلطة).. على امتصاص حالة الحماس الذي يرافق المصلح عادة، والذي يصاب بحالة كبيرة من الإحباط، وربما التردد والسخط.
وإذا امتلأ الشارع برغبات الإصلاح، فإن ذلك الامتلاء يشكل قلقا وإزعاجا كبيرا للسلطة. والقلق السلطوي قد يربك القرار، وإذا ارتبك القرار؛ فالأمة كلها قد ترتبك، وهنا تقع الأحداث المجنونة؛ فيعتدي الحدث المجنون على مكتسبات الأمة.
يقع كل هذا الغياب والتغيب.. (لثقافة الإصلاح).. في الفكر التربوي والتعليمي والسياسي والاجتماعي.. يضاف لذلك.. إقصاء.. فقه السياسة في التفاعل والحراك العام والمنزلي والمجتمعي. وهذا ما يجعل كل.. (حركات الإصلاح).. تصاب بالشرخ أولا، ثم يسهل كسرها.
إن لثقافة الإصلاح.. (صناعة كاملة وثقيلة).. ونحن في هذا العصر الذي تنقل فيه المعلومات عبر السماء وفراغاتها، وعبر مادة الأثير، والتي لم ندرك خطرها إلا في هذا العصر المزدحم بالأقمار الصناعية، وصحوتها التي غطت أسطح العمائر والمنازل والأحوشة.
فالإصلاح في أي وطن، يتأثر مباشرة باتجاهات الرأي العام العالمي، والإقليمي، وخاصة أن لكل رأي مضاد له الذي يبث معه وفي نفس اللحظة، فلقد أصبحت شاشة التلفاز مليئة بل منتفخة بالمعلومات، فإما أن تسمع المذيع، أو الإعلامي، أو المثقف، أو المسؤول، أو الزعيم. وإما أن تشاهد صورا حية لمكان المعلومة، وإما أن تتابع الشريط الإخباري في أسفل الشاشة وهو يبث المعلومات العاجلة والمستعجلة، ويضيف إليك معلومات أكثر تفصيلا من حديث المذيع أو المراقب أو المراسل. تذاع وتنقل وتبث تلك المعلومات والحقائق بقدر غير محدود من الحرية الإعلامية، وربما بقدر لا يحترم المسؤولية الوطنية؛ لأنه لا يخشى المحاسبة، مع شيء كبير من المنافسة، ربما غير الشريفة بين القنوات الفضائية. ولا يمكن للمتلقي تصديق كل ذلك الكم الهائل من المعلومات التي تبث؛ لأن بعض المعلومات قد رسمت صدقها من الحدث السياسي ذاته، أو تكون المعلومة المنشورة المغلوطة والكاذبة مدفوعة القيمة من قبل جهة ما؛ لإثارة الفتن والقلاقل والمشاكل.
فلذلك أرغب أن أقول: إن ثقافة الإصلاح ربما تتأثر ببعض تلك الصور الإعلامية الكاذبة، وربما تكون أكثر إقناعا، ولكنها غير صحيحة؛ فالاقتناع أكثر وأطول تأثيرا من المعلومة الحقيقية، فينبغي على ثقافة الإصلاح أن تكون نزيهة؛ لتظهر كل الحقائق دون إخفاء أجزاء منها.
لابد أن يتوفر في ثقافة الإصلاح الإلمام بكل أسرار القضايا العامة في الوطن. يكون ذلك وبكل اتزان، وتكون بعيدة كل البعد عن إقامة علاقات غير شريفة، وغير لائقة، مع أعداء وخصوم الوطن لتكون مجاميع من الأخلاق والقيم والمبادئ، ومنهجا تبني عليها صورتها في الشارع العام، بحيث تستمد تلك الأخلاق والقيم والمبادئ من عقيدة الشعب، وما يحبه من عادات وتقاليد؛ حتى لا تكون ثقافة مقلدة، كما نشاهده اليوم في بعض الأفكار الإصلاحية التي تتبناها بعض فصائل المعارضة العربية مثل: العراقية والسودانية واللبنانية والمصرية وغيرها. تلك المعارضات تريد أن يأتي.. (التغير والإصلاح).. من الخارج. وإن كان على ظهر الدبابات أو من على الطائرات الحربية. وهذا التفكير لدى بعض الإصلاحيين يؤكد أن.. (ثقافة الإصلاح).. تخضع كغيرها لإفرازات.. المعارضة.. المشتراة والممولة من خارج الوطن. وهذا النوع من المعارضة أصبح يشكل المشهد العربي، للأسف الشديد. يفعلون ذلك حتى لو كان مخالفا لعقيدة، ولقيم وعادات وأخلاق المجتمع. وأولئك المعارضون يدعون رغبتهم في تجديد الأفكار، والرغبة في التغير السريع، كنوع من أنواع.. (المراوغة والخداع السياسي).. الذي يتقنه الكثير من المثقفين والإصلاحيين والزعماء السياسيين. وتكمن خطورة هذه.. (الموضة السياسية).. في أن تكون أفكارها أساسا لاتخاذ القرارات المصيرية، وتدخل.. (الأجنبي).. في صناعة وصياغة وتوجيه القرار السياسي الوطني، كحال الأزمة اللبنانية، فشاهدنا القمصان السياسية، والبالونات الاقتصادية، حين سيطر المال السياسي على الشارع. وكلها تحمل اسم.. (الإصلاح).. فصار الإصلاح هو.. (قميص عثمان).. الذي تبحث عنه الأفكار الإصلاحية، فسمعنا كل أنواع: المراوغات والكذب، والوقاحة، والتبرير، والإسقاط، وعرفنا كل أنواع.. (العناد السياسي).. وعانى الإصلاح من كل تلك الإفرازات التي برزت على الساحة. فتغيرت مفاهيم ثقافة الإصلاح في ذات الإنسان العربي. وبدأ يشكك في مصداقية الإصلاح. وهذه مرحلة خطيرة في تاريخ الشعوب، وهذا ما نخشاه على مستقبل أوطاننا العربية. ولا يفوتني أن أنبه بخطر كبير بقولي: مهما كان التغير أو الإصلاح قادما ومستورا ومستوردا من خارج الوطن، فإن.. (الإهانة).. و.. (العار).. و.. (الخيانة).. ستلاحق المثقف أو المصلح الذي عمل وخطط ورحب وهلل بذلك الإصلاح الخارجي؛ فإثمة كبير، وثقله على النفس كبير. وتقع المسؤولية والنقمة على من فتح أبواب الوطن لثقافة الإصلاح المستوردة، فالويل لأمة ترحب بغازيها، والويل ثم الويل ثم الويل لهذه الأمة التي ترحب بمن يغتصبها عنوة وفي وضح النهار.
والله يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، وساعة العرض، وأثناء العرض.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|