الأشكال الشعرية: هجرات ومحطات غائبة (2 ـ 3) د.سعد البازعي
|
السؤال المطروح في الحلقة الأولى من هذه المداخلة كان عن الأشكال التي اتخذها الحوار العربي الغربي على المستوى الشعري في العصر الحديث: هل هناك ما يمكن أن نقول أن الشعر الغربي قد تبناه من الإبداع الشعري العربي؟
للإجابة عن السؤال يمكن أن نقول إن شيئاً من ذلك قد حدث بالفعل، كما يتضح مما رصده بعض الباحثين وما رصدته شخصياً في بعض الشعر الأمريكي، لكنه في الغالب رصد لقديم الشعر العربي وليس لجديده، كما نجد لدى الشاعر الأمريكي المعاصر روبرت بلاي في بعض استيحاءاته للشعر الأندلسي لدى ابن حزم وغيره ضمن اهتمامه بالثقافات الشرقية كالفارسية واليابانية، ولا أشك أن ثمة ما يشبه ذلك لدى شعراء غربيين آخرين. لكننا لا نستطيع في تقديري أن نتحدث عن تلاقح يشبه ما حدث ويحدث لدينا إذ نتعامل مع الشعر الفرنسي أو الإنجليزي أوغيرهما من النتاج الغربي مما نتج عن تغيرات مهمة وإضافات جديرة بالتأمل والدرس.
فليس قليلاً أن يكون الشعر الغربي الحديث رافداً ومحرضاً رئيساً للنقلة التي عاشها الشعر العربي في إضافة شكلي القصيدة التفعيلية ثم قصيدة النثر إلى مخزونه الإبداعي منذ أربعينيات القرن الماضي من خلال أعمال السياب والملائكة وعبد الصبور وأدونيس وسعدي يوسف ودرويش وآخرين ممن هم أحدث سناً. وقد لا يختلف الخطاب الذي قدمت به الأشكال الشعرية الغربية في العالم العربي لحظة تبنيها عن الخطاب الذي قدمت بها الأشكال الشعرية العربية في الغرب حين بشر بها مستشرق مثل جونز في نهاية القرن الثامن عشر، هذا إن لم يختلف الأثر نفسه في عمقه واتساعه.
في كلتا الحالتين كان ثمة توظيف للشكل لملء فراغ إبداعي أو ثقافي أو غير ذلك مما تمليه اللحظة التاريخية.
هذه المسألة، مسألة الاعتماد على أشكال مهاجرة تستقدم استجابة للحظة تاريخية محددة، هي الجانب الأكثر وضوحاً فيما يتصل بالآليات والقوانين التي تحكم تلك العملية.
بيد أن ثمة جوانب أخرى تتحكم على ما يبدو في الاختيار، منها المكانة الثقافية للشكل نفسه، أو الثقافة التي ينتمي إليها. أقول هذا على سبيل الفرضية التي سأحاول دعمها ببعض الأمثلة التي يتسع لها المقام، وإن كانت ستحتاج مع ذلك إلى المزيد من التأمل والبحث.
ففي تصوري أن مجيء الشكل الشعري، شأنه شأن غيره من عناصر الكتابة الأدبية عموماً، من ثقافة ينظر إليها بوصفها متفوقة يعد عاملاً آخر لا يقل أهمية عن غيره من العوامل. فكم هي الأشكال الشعرية التي تزخر بها الثقافات المختلفة التي تظل سجينة ثقافاتها أو بيئاتها الإبداعية لا تمتد إليها يد شاعر أو ناقد مستثمر فقط لأن تلك الثقافات تقع خارج دائرة الاهتمام. فالأقرب هو أن الثقافة الدنيا - الثقافة المصابة بما يمكن أن نسميه عقدة نقص حضارية - لا تأخذ بعين الاعتبار قيمة الشكل نفسه بقدر ما يهمها أن تستثمر في أشكال من شأنها أن تحقق مكانة حضارية أعلى لتلك الثقافة، بمعنى أن الشكل قد لا يأتي لأن هناك حاجة إبداعية أو ظرفية تاريخية.
لكن هذا العامل الذي يفسر نظرة ثقافات دنيا إلى ثقافات عليا ينعكس حين تكون الثقافة المستثمرة أو المستوردة ثقافة عليا، لأن الاعتبار عندئذٍ يكون لجانب آخر. فالثقافات المهيمنة أقل اهتماماً بمستوى الثقافة المأخوذ منها والاعتبار أقرب إلى أن يكون لطبيعة الشكل المستورد وإلى تلبية حاجة ثقافية وإبداعية محددة.
بغير هذه الفرضية يصعب أن نفسر ازدحام الأشكال الشعرية التي تستوردها الثقافات الآسيوية والإفريقية من الغرب قياساً إلى مقدار ما تأخذه تلك الثقافات من بعضها البعض. لكن لعل الأهم من ذلك أو مما يوازيه أهمية هي الدوافع التي تحرك عملية الاستثمار في الأشكال الشعرية.
فالشعر العربي الحديث، الذي أخذ الكثير من الغرب لا نجد لدى شعرائه أو نقاده اهتماماً يذكر بالشعر الصيني أو الياباني أو الإفريقي عموماً.
هذا في حين أن الشعر الغربي منذ أواخر القرن الثامن عشر، أو منذ عصر التنوير، وهو منفتح لمختلف الأشكال الإبداعية، شعرية وسردية وغيرها، التي يجدها في البلاد المكتشفة حديثاً بالنسبة للغربيين. ولو حاولنا تعداد تلك الأشكال، بدءاً بالقصيدة العربية التي روج لها وليم جونز، لطال بنا الحديث. لكن هناك مثال واحد من النصف الأول من القرن العشرين قد يكفي للدلالة على ما أشير إليه.
ففي مطلع القرن العشرين سعى الشاعر الأمريكي عزرا باوند إلى توظيف قصيدة الهايكو اليابانية ذات المفردات القليلة والتكثيف التصويري العالي دعماً لحركته التصويرية التي كان يقودها لتحديث الشعر الأنغلو- أمريكي.
وحدث بالفعل أن شاع ذلك الشكل الشعري وما يزال شائعاً في المشهد الأدبي الغربي لاسيما في الولايات المتحدة. لكن باوند لم يتوقف عند ذلك الشكل وإنما وظف شكلاً شعرياً صينياً آخر هو شكل القصيدة / الرسالة ذات الصبغة المونولوغية، بالإضافة إلى اختراقات ثقافية أخرى تمتلئ بها أعماله. وقد شاركه في ذلك التوجه إلى العالمية آخرون منهم الأيرلندي وليم ييتس، الذي استوحى من الثقافات الشرقية لاسيما الثقافتين العربية واليابانية.
هذا بالإضافة إلى ت. س. إليوت في أعمال عديدة قد تكون أكثر شهرة من غيرها.
في مقابل ذلك يبدي بعض الشعراء العرب اهتماماً متواصلاً ومركزاً بما تزخر به الثقافة الغربية من أشكال شعرية غير ملتفتين إلى حد كبير إلى ما في الثقافات الأخرى من إمكانيات يمكن الإفادة منها.
ومع أن من ذلك الاهتمام ما تبلور في عطاء شعري متميز لدى بعض الشعراء فإن التمركز الغربي في مشهدنا الشعري يشكل مأزقاً ينبغي تجاوزه بالانفتاح على الثقافات الأخرى، لاسيما أن هناك الكثير من الصلات التي تربطنا بالثقافات غير الغربية في مرحلة ما يطلق عليه الآن ما بعد الكولونيالية. فالعالمية لدينا تعني الانتشار في أوروبا وأمريكا والانفتاح يترجم حصرياً تقريباً إلى الانفتاح على التجارب الغربية.
وسنجد الشواهد على ذلك: فقبل ما يقارب الخمسة عشر عاماً أصدر الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي مختارات شعرية تحت عنوان مدن الآخرين حصر اختياره فيها ومن ثم معنى الآخرية في شعراء غربيين: شعراء فرنسيون، وإنجليز، وأمريكان، وإسبان، وروس، وألمان، وإيطاليون، ويونانيون. ولم يكن حجازي في مختاراته خارجاً عن التوجه العام لما نجد لدى غيره من الشعراء منذ ترجم شوقي قصيدة البحيرة للامارتين وصولاً إلى ترجمة سعدي يوسف لوتمان وغيره ضمن مترجمين ومتمثلين آخرين كثر.
من النماذج الأخرى التي يمكن الإشارة إليها في السياق نفسه مختارات أصدرها عصام محفوظ بعنوان شعراء القرن العشرين وضع لها عنواناً ثانوياً هو: ثلاثون شاعراً عالمياً يوقعون العصر (بيروت: دار العلم للملايين، 2000).
فالعنوان الواعد بالعالمية والشمولية لا يلبث أن يفضي إلى تمركز غربي، حين نكتشف أن ثمانية وعشرين من الشعراء المعرف بهم والمترجم لهم يأتون من لغات أوروبية. أما الشاعران الآخران، اللذان يفترض أن يختلفا، فإنهما يختلفان فقط في أن انتماءهم الأصلي إفريقية، أما اللغة التي كتبا بها فهي أيضاً أوروبية: فالسنغالي ليوبولد سنغور والمارتينيكي إيميه سيزير كتبا بالفرنسية.
ومثلما يفعل حجازي، لا يشير محفوظ إلى اللغات التي ترجم عنها مختاراته واعتمد عليها في معلوماته، والأقرب أنها الفرنسية، فالألمان والإنجليز وغيرهم من غير الفرنسيين يأتون عن طريق الفرنسية، وهذه صفة تجتمع عندها ترجمات عربية عديدة عن اللغات الأخرى، منها تلك الترجمات القليلة عن اليابانية والصينية، حيث يكون المصدر دائماً أو في الأغلب الأعم أوروبياً ولا يشار إليه.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|