قهوة مرة في عتمة الليل عبدالرحمن السلطان الرياض
|
هواء بارد يكتسح المكان، هزير ريح يتسكع في طرقات مقفرة، أشجار تبدو كأشباح من زمن قديم، ذؤاباتها الضخمة تكللني، ها قد انتصف الليل وتوارى القمر ولم يعد له مكان في كبد السماء، ظلام دامس يلفني.. كم هو ثقيل هذا الصمت!.
لا أدري لماذا أفقت في تلك الساعة بالذات! ساعة لم أعتد الإفاقة فيها، ولكن يبدو أنه ذلك الحلم الحقير الذي أصبح يكدر مزاجي ويفسد نومي.
وقفت أمام ذلك المقهى الذي لا يغلق أبوابه إلا مع بزوغ خيوط الفجر الأولى.. وجدته هناك.. دائما ما كنت أجده.. كان أبداً متفرداً حزيناً لا يرى في النهار أبداً، فإذا غشي الليل مشى متسللا بإزاء الجدران يسرع الخطى لينزوي كحشرة تافهة داخل هذا المقهى الوضيع، يجلس في زاوية، لم يكن يغيرها قط لا أدري لماذا أرعدت فجأة. أدركت كم هذا الرجل وحيد!
اخترت منضدة لشخصين، فقد كنّا اثنين؛ أنا وحزني القادم، يسلم رأسه إلى كفيه فلا ترى ملامحه القاتمة إلا عندما يطلب كوبا آخر من القهوة، في بعض الأحيان كنت أراه يدخن ولكن بدون شراهة، ألاحظ صفار وجهه كأوراق خريف صفراء ترحل ولا تعود.
(لا بد أن أكلمه.. لا بد).
كان هذا أمرا خطيراً صدر بسرعة من روحي الضائعة إلى جسدي المنهك الذي لم يكن عليه سوى التنفيذ، انتصبت فجأة سحبت كرسياً قريباً وجلست أمامه، لم يغير من جلسته؛ وكأنما الأمر لا يعنيه، بعد برهة من الزمن أغاض برأسه فالتمعت عيناه السوداوان ببريق غريب لا يمت إلى عالمنا بصلة.
أنا آسف.. إن كنت قطعت عليك عزلتك.
يرد بصوت خافت كحفيف الأشجار:
... لا عليك...
الطقس بارد الليلة؟
الليلة فقط!.. الطقس بارد كل ليلة.
لم أرد على تلك الكلمات اللاتي خرجن بشكل بارد وحقير، أشعل سيجارة، وكأنما أشعل ناراً أمامي، لم أحاول أن أسأله بشكل مباشر عن هواجسه وآلامه بل هجمت بكل وحشة نحو أفكاره:
لماذا أنت حزين؟
رد عليّ وكأنما صحا من سُكر:
وهل أنت سعيد؟
بشكل ما.. نعم.
إذن؛ أنا حزين بشكل ما...
عندما يثور في أعماق إنسان ما حزن جاف وعميق فلا بد أن يحاول البكاء وعندما يبكي ويبكي، وينتهي مخزون الدموع، يكتسي الإنسان حلة من الحزن، فيختفي وهج العينين، وتحس بتعب غريب يعيث فساداً في تضاريس الوجه البشري، وتكتمل أحداث القصة بصمت أخرس يلف المشهد، وهذا ما كنت أشاهده في رفيق المقهى القابع أمامي الآن.
هل تهرب من شيء ما؟
وهل أهرب من الدنيا إلى الدنيا!!
تحب الجلوس في هذا المقهى... أليس كذلك؟
ليس كل ما يفعله المرء بالضرورة يكون محبوباً له.
لماذا لا أقولها كلمة صريحة، هذا الرجل يصيبني بمس من الجنون، لا بد أن أتغلب على مقاومة هذا الغريب دائما ما يتكرر الحلم، فلم سينمائي متقطع الأوصال متذبذب الفصول، لا عهد لي به ولا صلة، وإن كنت أنا وهو من الممثلين فيه بل من القائمين عليه.
الحديث مع الغرباء من الأمور الصعبة وخاصة لشخص مثلي لقس النفس، ضيق الصدر، ولكن يبدو أنه حب الاستطلاع والفضول؛ تلك الغزيرة التي تجبر الإنسان على فعل أمور قد تكون جدا مشينة، كما أن حديث هذا الغريب كان لي كالجرعة من الكأس لا تبل الصدى، ولكن تزيد العطس.
أليس لك صديق؟.. تفضي إليه بالمكنون وله تعود.
... كان لي صديق.
وأين هو؟
... بعته.. وبثمن رخيص!!
استقبلت صوته المخذول، بأن صككت على أسناني، فها قد نكفت الجرح وإليه وصلت، يكمل الرجل حديثه بصورة متقطعة بشعة:
أصدقاء.. الشدة.. قليلون.
فجأة يبكي كبكاء طفل صغير فقد أمه وسط زحام خانق.
افتقده.. كما لم أفعل قط، أريده عونا ورفيقاً.
وهل تملك الثمن؟
...
هل لي أن أقرضك.
سحابة من كآبة حقيرة تخترق حديثنا الحزين، يرد عليّ وكأنما خنجر من كمد حاد يطعن قلبه الدامي:
وهل تكفي أموال الدنيا كلها لشراء صديق!!
في الحقيقة لم أستطع الإجابة؛ فلقد كان السؤال من النوع الذي لا يحتمل إلا إجابة واحدة، أتنفس رائحة جريمة لا تغتفر، جريمة وجهت نحو الصداقة، تلك المعاني السامية التي بدونها لا يكون الانسان انسانا، بل أقرب إلى شيء ما بالتأكيد هو أقل من الإنسانية، أحاول استكمال الحديث الآسي:
لماذا نعيش؟
لكي نموت.
إذن لماذا نموت؟
لكي نفسح مكاناً للآخرين!!
توقفت عن الكلام، يبدو أن الحديث مع هذا الغريب سوف يدمر كل أمر جميل في نظرتي للحياة، سكتُ فسكت، يتسرب بصيص نور من ناحية الشرق، يرفع يده اليمنى، أقول له بوجوم سخيف وازدراء واضح:
سوف أدفع الحساب.
لا يلتفت نحوي، بل يعتمر قبعته السوداء ويمضي بهدوء وكأن النار التي في فؤادي قد همدت، لم أحاول أن أرمقه لكيلا أعرف وجهته، شيء ما في داخلي يريد أن يقول:
(كنت أحلم وانتهى الكابوس)!!
كم كنت أتمنى أن أقذف بتلك الكلمات وأنتهي، ولكنها الحقيقة دائماً ما تكون مُرةً.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|