استراحة داخل صومعة الفكر قاطع الطريق أحمد قنديل سعد البواردي
|
معنيان اثنان يتبادران إلى الذهن حول دلالات العنوان.. معنى قطع الطريق أي اجتيازه بخطوات ثابتة إلى هدف مبتغى.. ومعنى آخر له دلالة متوحشة تشير إليها عبارة قطاع الطرق.. أولئك الذين يتخذون من القرصنة أسلوب حياة لهم من أجل السرقة وترويع المسافرين.. أيهما يعني شاعرنا..؟
في مقطوعته الأولى بلا عنوان لا شيء يشير إلى دلالة عنوانه بشكل واضح إلا إذا كان يعني خطوات هي على مسلك حياة كلنا نخطوها:
فرغت كأسه، فمد يديه
يترجى من الحصاء الترابا
ومن الريح نسمة. وعبيرا
ومن الصخر قطرة. وانسيابا
ومن الخلد نفحة وسلاما
ومن الله رحمة.. وعتابا
هذا الفارغ الكأس.. الذي خدعه الرجاء.. وخاصمته الريح.. وهزئ به الصخر.. لم يهزمه إيمانه بربه رغم دياجيره المطبقة من حوله:
الدياجير مطبقات عليه..
ظللت رأسه رؤى، وضبابا
حتى الأماني خدعته ببريقها.. ولم تسقه من ريقها لأنها أشبه بلمعان سراب خادع وكاذب.. أما قافية شعره فقد جفت خاطرتها على شفتيه إلا من بعض تمتمة لا تطرح ما في نفسه من مكنونات شعورية. إنهما ينشدا الحقيقة.. ولا شيء غير الحقيقة:
ظامئ ينشد الحقيقة نبعا
سلسبيلا.. للروح لذَّ وطابا
ضاق بالوهم في النواظر نهلا
وبمرآه في البراري سرابا..
هنا أفصح لنا أنه يعبر جادة حياة شاقة ومضنية.. ولكن بعزيمة لا تنثني.. لا ترتد.. ولا تتردد:
لا يبالي ما قد يكون. وما كان
فقد حث للخلود ركابا
عابراً دربه الطويل مجازا
قد تلوَّى. ووهدة. وشعابا
قد مشاه مجانبا من لحاه
وطواه غابا.. يرود.. وقابا
بهذا الإصرار والتحدي بدأ شاعرنا القنديل يضع خطواته على درب حياته.. ومن كانت هذه عزيمته على الدرب وصل.
ماذا عن مشاهداته عبر رحلة حياته الشعرية؟!:
قد رأيناه ليلة الأمس بالجر
ف مطلا للقاع.. حان مابا
مفردة (مابا) محتاجة إلى حرف المد (مآبا)
فوق أكتافه الذماء تلاشى
مِزْوداً جف فضلة. ووطابا
إنه يرسم لنا صورة إعرابي، أو بدوي يحمل زاده فوق كتفه لا ناقة لديه ولا جمل.. ولا حتى حمار..
وبيمناه من صفائح عمر
أحسن حال أسطرا وكتابا
وبعينيه ظلمة ما جلاهما
عنهما اليوم من رجاه. فخابا
مسافر تخلى عنه ذووه، ومجتمعه.. آثر الرحيل حيث لا هدف..وإنما الهروب من واقع مر يصهر دواخله تحركه أقدام مجهدة:
وبأقدامه. تجر خطاه
رجفة الوهن. جفوة, وعذابا
ملَّ عكازه. يقينا تردى
بعد أن ملَّ قومه. والصحابا
أبشع ما يكابده طاعن في السن يستند إلى عكازه ضعفاً أن لا يلقى من أقرب الناس إليه لمسة حنان وعاطفة رحمة تمنحه سكينة هو في حاجة إليها.. ويبقى الجحود بطل هذا المشهد الأول في رحلة حياة متداخلة يشيع فيها الحرمان بالنكران.
لم تنتهِ مشاهد ذلك البائس.. فالزمن لا يرحم.. والشعر أيضاً لا يمل من سرد ملامح مأساة لا مواساة فيها:
وتدلت من عارضيه سبال
تاه فيها العمر القصير وشابا
هل كان شاباً عاجله الشيب والهرم؟!
تلك أسماله. وما قد حوته
كل دنياه ضلة وتبابا
هكذا جاء مشهد الليل.. واندحر الليل أمام زحف الصباح.. تغير المشهد بنهاية عمر لا يسر:
واكتشفناه في الصباح بقايا
من بقاياه.. اعظما. وثيابا
من حواليه ركعا عند مثواه
عذارى التاريخ ذبل انتحابا
رحم التاريخ يخصب وينجب.. ولكن خارج دائرة البشر.. إنهم ملائكة رحمة..
ناشرات غدائر الحزن قد
جثمن يطوِّفن بالصريع احتسابا
نادبات من كان منهن بالأ
مس حرياً في أمسه أن يحابى
لقد استعجل شاعرنا موت ذلك الكهل.. أو أنه أجل مشهد ما قبل نزعه الأخير.. نعود إليه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة؟
ثم أغفى. وقال يا أخت ما قال
كلاماً حلو المعاني. عذابا
قال في نزعه الأخير وقد رن
صداه مجلجلاً صخابا..
ولست في رحلتي الطويلة بالكا
شف سراً.. ولا المثير عتابا
حسبي اليوم أنني مت في الدر
ب غريباً. وما شكوت اغترابا
أنا يا جارتي وديعة صحرائك
قد حام فيك ولابا..
هنا أفصح عن نفسه ذلك الدرويش بأسباله الممزقة.. بعيونه المغامرة.. بتجاعيده المبكرة. بقدميه الحافيتين.. بآماله المحبطة.. وبأمانيه المحطمة الضائعة.. إنه الحب ولا شيء غير الحب ذلك الغريب الذي لم يلقَ له مكاناً يستوطنه ويستبطنه في نفوس الناس.. وفي حياتهم:
أتدرين من أكون؟ أنا الحب
أنا الفن. لا يطيق كذابا
أنا من أمتي الضحية تترى
في مدار الأيام تروي العجابا
أنا فيها.. منها المثال تنادي
أو تداني إلى المثال اقترابا
والضمير الحي المترجم عنها
نزعة الحي للمعالي وثابا
رائداً يسلك الطريق جديدا
ووحيداً، قد ضل حين أصابا
كل هذه الرحلة الدرامية لحب لا مكان له بين أهله في سلوكهم وتعاملهم جاءت شهادة وفاته مختومة بيده.. موثقة بلسانه.. ولهذا وددت أن شاعرنا المجيد عمَّق هذه الرؤية الرائعة بشهادة أكثر.. ولن تكلفه أكثر من إبدال كلمة (جديدا) في بيته الأخير بأخرى أصدق تعبيراً كأن يقول:
رائداً يسلك الطريق طريدا
ووحيداً قد ضل حين أصابا
وضلاله هنا غير الضلال.. إنه الضياع الذي هاجر به من دنيا الكذب. والزيف إلى نقاء يبعده عن شقاء المخاتلين والمخادعين.
حين غادر دنيا الناس لم يتركهم دون وصية.. وعظة علهم يصدقون.. يتعظون.. ويعودون إلى صوابهم.. وإنما اصطفى من الزمن رسول رسالة.
قل لأهلي يا دار ما كان أحرى
لو تحرت بعض العقول الصوابا؟
لو أصاخت أسماعها فأعارت
بعضَ ما قلت سمعَها العيابا
لو أفاضت من القلوب على القلب
عزاء.. يُقرب الأنسابا..
رسالته تلك لم تكن الأولى.. بل كانت الأخيرة التي ودّع عالم الصدق بها.. قبلها كان له صوت ابتلعه الصمت القاتل..
طال سؤلي إلى الزمان ولم ألقَ
على كرة الزمان جوابا
ضيعة العمر لا يضيق بها الحر
متى محَّص المدى الأسبابا
قل لأهلي.. ناسا دنوتُ ففروا
ولقومي شعباً مدحت فعابا..
وبشكل تعتمل فيه كل هواجس الحيرة.. وعوامل الألم ينادي أهله:
قدّسوني. أو فالعنوني.. ولكن
لا تقولوا غطى التراب ترابا
إنه يرفض الموت لأنه حب.. والحب أبداً لا يموت.. إنه يولد مع الحياة.. يتجدد بخلاياها.. ومن دمها لأنه صوت حياة:
سوف أبقى رغم الفناء لتبقى
صورتي فكرة تنير الشعابا
عند هذا الحد من مشهد الحب المهاجر.. إلى أن يهجر.. وأن يبحر إلى عالم آخر.. لأن مكانه صدور الناس. وعقول الناس. وقلوب الناس.. وعلاقات الناس بعضهم ببعض.. دون حب تشيع الفوضى.. وينتصر الكره.. وتتكسر مجاديف الوصل والتواصل:
عند هذا يا أخت ألوى. وألقى
نظرات للحاسرات النقابا
ثم أرقى للموت جفنا وأزجى
الروح طيفا مرفرفا وثابا
هكذا عاش. هكذا مات في الدر
ب شبابا. راد الحياة شبابا
مفردة (راد) عنيَ بها شاعرنا الراحل (أراد) وأحسبها جائزة.. وإن كنت أتمنى لو أحل محلها مفردة (بغى) بمعنى قصد.. وبقي للقنديل قنديل توصيفه لذلك المسافر المهاجر الذي هجره مجتمعه.. ولكنه لم يتخلَ عنه:
لمَّ أمداءها القصية شوطا
وطوى الغاية البعيدة. قابا
وجلاها لأهله.. وارتضاها
وارتضاهم لها. فكانوا عقابا
الحب.. هو قاطع الطريق الذي عبر الرحلة بعد هجر مر:
إنه قاطع الطريق انتسابا
عابه قاطع الطريق اكتسابا
كما توقعت.. جمع بين المفهومين المتضادين.. قطع طريق السفر بسلامة سفر.. وقطع طريقاً من أجل السلب. والنهب. وإشاعة الذعر..
قد رعانا بشعره. فرعينا
ه معافى من زيفه. ومُحابى
وابحنا له الدروب مشاها
صاحب الدرب صابراً. أَوَّابا
قد عرفناه عابراً مستجيبا
ودفناه. شاعراً مستجابا
وزجرنا عنه الصدى. رنَّ بالقفر
صداه مستوحشاً. عيابا
جاهلياً.. قد باء ينعق بالإثم
نفاقاً. وبالخطيئة عابا
لم نستودع الصدق كما أحب.. ولم نودعه كما أراد.. ما زالت بقايا من جاهلية القوم والقول على أحسن تقدير هي المسيطرة على لغة التخاطب.. وعلى خطاب التعامل.. لأن ثقافة الأخلاق مريضة تحتاج إلى علاج.. والعلاج يحتاج إلى دواء. والدواء يحتاج إلى طبيب يشخص الداء.. ويحدد الدواء.
أخيراً.. لا ينسى شاعرنا أن ينثر باقة ورد على مثواه الحزين:
فانثري الورد ياحبيبة قلبي
حول ذكراه.. للورى اعقابا
فلقد عاش للورود حبيبها
مثلما عاش للقلوب مثابا..
الورد وحده لا يكفي لإنعاش روح الحب.. وإعادة أنفاسها الوردية من جديد.. الحب ليس شيئاً يُوارى في التراب.. مقابر الحب في دواخلنا إن شئنا جاحدين قتلناه.. وإن أردنا جاهدين أحييناه.. لتكن ورودنا ورداً لنهر النقاء والصفاء.. والطهر.. ولتكن زاداً نطعمه بعقولنا كي يستيقظه الحب من مرقده معافى دون عكاز يستند إليه.. ودون ثياب رثة مهلهلة.. ودون مزودة طعام لا يطعم.. ودون أقدام عارية تدميها صخور السفر إلى عالم تسكنه أشباح الغربة..
لنكن صادقين.. الصدق مفتاح النجاح.. بالصدق يشرق الأمل.. ويورق العمل.. وتنتصب أعمدة الحياة قوية في وجه زلازل الكذب. والنفاق. والخداع.. الحب حياة.. والحياة حب.. والصادقون المتقون هم أحباب الله.. وأحباب خلق الله الطيبين..
ختاماً.. إنها رائعة لشاعرنا الراحل أحمد قنديل.. كل ما فيها قناديل تحاول جلاء ضبابيات بعض ما تعانيه بعض المجتمعات التي أعماها العقوق عن مشهد الحقيقة التي لا تقبل الزيف.. ولا ترتضي بالحيف.
الرياض ص.ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|