لقد كان الثمن غالياً عبدالله بن أحمد الشباط
|
القرى المتناثرة بين حقول النخيل مقسمة إلى أحياء يشغل كل حي منها عدد من البيوت الطينية.. وفي كل بيت من هذه البيوت تقطن الأسر بكل أفرادها الذين يشكلون وحدة أسرية تلتحم بالوحدة القبلية للحي.. ثم تلتحم مع أبناء القرية ككل.. الجميع يعرفون أخبار الجميع.. والكل يتلمس أحوال الكل ورغم أن المطر كان يهدد البيوت الطينية بالتداعي وبعض الأسر بالتشرد.. إلا أن الجميع يستقبلونه بفرح وسرور وكأنه عيد طارئ.. إذ في المطر تتصاعد رائحة الأرض إلى الأنوف فتذكرهم بمنشئهم ومصيرهم وعلاقتهم الأبدية بهذه الأرض.
وفي ليالي الصيف المقمرة يحلو السمر على أسطح المنازل.. وتغفو العيون على خيوط الضوء القمرية.. ويتسلل النوم من بين أزيز الزنابير في الحقول.. وفي الصباح تفتح العيون ومثلها الآذان على أصوات النواعير في السواني وشدو البلابل على الأشجار.. ونداء المؤذنين في المساجد.
ودار الضيافة رغم كل مظاهر التقشف والكفاف لم تكن تخلو من ضيوف.. أصدقاء.. وأقارب، وعابري سبيل.. يقدم لهم من الطعام ما يقدم لأهل الدار أو أحسن منه.. ولم يكن باستطاعة أي غريب أن يتسلل إلى أي حي من أحياء القرية.. لأن الكل يراقبه.. وبعضهم سوف يسأله عن غرضه ومقصده.. فإن أجاب بوضوح دله على ما يريد.. وإن تلجلج تصدى له ومنعه من التجوال في الأحياء.
وعندما اخترعوا العربة التي يجرها الحمار كان ذلك فتحاً عظيماً في عالم المواصلات.. إذ أصبحت تلك العربة تنقل ما يعجز عن نقله أربعة أو خمسة حمر دفعة واحدة.. وأصبح الذي يملك عربة كمن يملك طائرة بمقاييس اليوم.. كانت الحياة سهلة رغم شظفها.. رخية رغم شدتها.. باسمة رغم قلة الفرص فيها.. كانت حياة بمعناها الأسري القبلي المتلاحم.
وكان الناس رغم جهلهم وفقرهم يتحابون ويتعاطفون ويقفون مع بعضهم في الأزمات الطارئة.. كانت تظلهم القناعة.. يرددون في رضى (هجر وربع القوت).. أي أن أحدهم يرضى بربع الدخل وأن يقيم بأرضه لا يفارقها مهما كانت المغريات المادية.. كانت الطموحات بسيطة للغاية تدل على الطيبة والقناعة.. حتى الأطفال الذين يتلقون تعليمهم في الكتّاب أو في المدارس الابتدائية كانوا يرون في الحصير الذي يجلسون عليه أثاثاً وثيراً.. فلم يخطر ببالهم آنذاك أن هناك طلاباً يجلسون على مقاعد خشبية وأمام كل واحد منهم قمطراً يحتوي كتبه وكراريسه وأقلامه.. حياة بسيطة خالية من العقد.
ثم ماذا حدث...؟
لقد حدث الانقلاب.. أو قل هو الطوفان الذي قلب الموازين وعصف بتلك الحياة المتواضعة من أساسها فبعد أن كان شعارهم هو (هجر وربع القوت) أصبح الكل يتطلع إلى ما هو أعظم من القوت ويحلم بالأرصدة ويدخل في المضاربات والمساهمات فكبرت الطموحات.. فانفض مجتمع الأسرة التي كان يضمها بيت طيني متداع، ليقيم كل واحد من أفرادها في بيت مستقل من الحديد والأسمنت، يمنع عنه سموم الصيف وعواصف الشتاء، ويقيه زخات المطر التي مهما زاد عنفها فإنه وأفراد أسرته لا يحسون بوجودها.
وبعد أن كان أقصى ما يتمناه، عربة يجرها بغل أو حمار، أصبح كل واحد يملك سيارة بل سيارات يستخدمها لتنقلاته وتنقلات أفراد أسرته.. وتولت المكيفات تغيير الطبيعة داخل المنازل.. فجلبت له الدفء في الشتاء والبرد في الصيف.. كما تولت الثلاجات المنزلية حفظ الأطعمة ليجد فيها فاكهة الشتاء صيفاً وفاكهة الصيف شتاء.. إضافة إلى ما تزخر به من أنواع اللحوم بدءاً بلحم الجمل وانتهاء بلحم الطير الذي يتخيرون.. إضافة إلى صيد البحر من أسماك وقواقع.. ولم يعد الثوب الواحد يكفي من العيد إلى العيد سواء للنساء أو الرجال أو حتى الأطفال.. بل أينما تفتح الخزائن تجد الثياب المكدسة بالعشرات من مختلف أنواع الأقمشة، قد خاطتها أيد ماهرة حسب الطلب.
والمدرس الذي كانت له هيبته ووقاره أمام الطلاب.. تشجعه وتؤازره عبارة (لك اللحم ولنا العظم) تحوّل إلى مجرد ناقل للدروس يلقيها على الطلاب ويشرحها بقدر الاستطاعة.. فمن أراد أن يتلقى ويستفيد ويفهم فإن الباب مفتوح أمامه.. ومن أراد أن يعبث ويتسلى ويتخذ من المدرسة مكاناً لقضاء الفراغ فليس للمدرّس عليه أي سلطان إلا النصح والتوجيه والاتصال بولي الأمر الذي لم يعد لديه الوقت الكافي لمتابعة دراسة أبنائه وتحصيلهم العلمي، لأن أعماله ورحلاته لا تتيح له فرصة متابعة هذه الأمور الثانوية في نظره.
ولم يعد الجمل هو الوسيلة الوحيدة للسفر والانتقال بل عرف الناس البوينج والترايستار والإيرباص والكونكورد.. والجزيرة العربية التي نظن حدودها هي نهاية العالم أصبحت مجرد نقطة على هذه الخريطة الممتدة بين القطبين.. وأصبح الواحد منا يفطر في منزله ويتغدى في روما ويتعشى في لندن.
ولم يقتصر هذا التطور أو التمدن على ما يخص الكبار فقط، بل تعداه إلى لعب الأطفال.. فبعد أن كنا نجتهد لصنع ألعابنا من المواد البسيطة المتوفرة آنذاك أصبحت اللعب تأتينا مصنعة بأشكال وألوان لا حدود لها.. ولم تعد البنت تتفنن في صناعة ثوب دميتها بل صارت الدمى تأتي وهي تلبس ملابس جاهزة من شتى الألوان.
هذا هو التطور.. وإن شئت سمه التمدّن.. أو الانقلاب.. فما هو الثمن يا ترى..؟
الثمن باهظ.. ومكلّف.. فالرابطة الأسرية تفككت وأصبح الأب لا يرى ابنه.. والأخ لا يزور أخاه إلا في المناسبات.
وأصبحت أمراض الإنفلونزا والزكام أمراضاً شائعة بسبب إدمان التكييف.. أما الراحة والإفراط في أنواع الطعام فقد جلبت معها أمراض السكري، وضغط الدم، والروماتيزم.. وأصبح كل واحد يحس بلهاث داخلي لا يعرف مداه.. ولا إلى أين ينتهي حتى يسقط صريعاً حيث لا يفيده عرّاف اليمامة ولا طبيب هيوستن.
ولم يعد في مقدور الآباء متابعة أبنائهم دراسة وسلوكاً حتى تفشّت العديد من الأمراض الاجتماعية الفتّاكة كالمخدرات والهروب من المدارس، ومعاكسة النساء في الطرقات..
الكثيرون يحلمون بالماضي..
والكثيرون ينعمون بالحاضر..
ولا شك أن معطيات الحاضر وما نعيشه من الأمن ورغد العيش أفضل بكثير من الماضي وأدواته البدائية البسيطة لكن الثمن كان غالياً جداً.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|