السخرية في نثر حسين سرحان مع موازنة بينه وبين المازني
|
تأليف الدكتور:
عبد الله بن عبد الرحمن الحيدري
قراءة:
حنان بنت عبد العزيز آل سيف*
حسين سرحان رائد من رواد الصحافة السعودية الناهضة، وعَلَم من أعلامها البارزين، وصورة نابضة بالحياة، مفعمة بالحركة، مشرقة بالأمل والتفاؤل والطموح، فهو من أول الأعلام وأقدم الأفذاذ الذين واكبوا نشأة الصحف في المملكة العربية السعودية، ورافقوا نموها وإرهاصاتها وازدهارها، حيث كانت له صلة وثيقة ورابطة قوية بصحف عصره ومجلات وقته، فكتب في معظمها ك(المنهل) و(اقرأ) و(المدينة) و(البلاد)، بل إن هذه الصحف والمجلات كان لها فضل عليه في صيانة أدبه وحفظ مقالاته، حيث تُعد المصدر الأصلي لكتاباته النثرية ومقالاته الأدبية، وقد أسهم فيها إسهاماً واضحاً، ولا سيما في عصورها المشرقة وعهودها المضيئة، حينما كان الأدب فيها يفوز بالقدح المعلى والنصيب الأكبر.
كان حسين سرحان يميل إلى اللغة الساخرة، والأسلوب التهكمي المضحك، وكان غالباً ما يخلط الجد بالهزل والظرف، فكان يلجأ إلى طرح موضوعاته بروح مرحة ساخرة، ويبطن بهذه السخرية الهزلية نقده لنفسه وغيره، ويمزج بها آراءه في المجتمع والناس والعالم الذي يسير من حوله.
وله مثيل بارز، وقرين ظاهر، من أدباء الدولة العباسية، هو الجاحظ في رسالته (التربيع والتدوير) حينما سخر من أحد المناوئين له، المعادين لشخصه وأدبه وفنه، فما كان منه إلا مزج هذا النقد بدعابته الساخرة، وهزليته اللاذعة، فجعل من خصمه صورة مضحكة ممتعة.
وبين ناظريَّ كتاب متين، أسلوبه مبين، وهو يبحث في ظاهرة السخرية وسمة الهزلية عند الأديب السعودي الراحل حسين سرحان. والكتاب من يراع الدكتور النابه عبد الله بن عبد الرحمن الحيدري حفظه الله وحماه، وعنوانه سبقت الإشارة إليه، وهو من إنتاج مطابع الحميضي الكائنة برياضنا العامرة حرسها الله، والطبعة التي أقرأ فيها هي الأولى لعام 1427هـ/ 2006م.
ويوضِّح المؤلف حفظه الله في مقدِّمته للكتاب ماهية الدراسة ومنحاها، فيقول: (تتجه هذه الدراسة إلى الكشف عن ظاهرة السخرية في نثر حسين سرحان رحمه الله, وذلك عبر تحديد مفهوم السخرية بشكل عام، وعند السرحان بشكل خاص. وتأتي دراسة هذه الظاهرة الأسلوبية دون سواها من ظواهر في نثر السرحان لأنها أبرز خصيصة أسلوبية لديه، وقلَّما تعرض ناقد أو باحث أو كاتب لأدبه شعراً أو نثراً إلا وأشار إلى نزوعه إلى السخرية... وتكمن أهمية دراسة ظاهرة السخرية عند حسين سرحان لتميُّزه بهذا الاتجاه الكتابي وإلحاحه على توظيف السخرية في أدبه، وخاصة نثره، فظهرت أصالته في هذا المجال، وبدا واضحاً تأثيره في عدد من الكتاب والأدباء السعوديين الذين أعجبوا بطريقته في معالجة العيوب الاجتماعية أو الأدبية بأسلوب رمزي هازل يجمع بين الجد في الباطن والسخرية في الظاهر).
وفي الكتاب وقفات حيدرية، ورسائل توجيهية علمية بحثية؛ كقول المؤلف في نهاية مقدمة الكتاب ما نصُّه وفحواه: (هذا الكتاب يحاول أن يرصد ظاهرة أسلوبية بارزة في نثر حسين سرحان رحمه الله، معترفاً بأن الظاهرة تحتاج إلى توسع وبسط ليشمل إضافة إلى نثره شعره. وعزائي أن ظاهرة السخرية في نثره أبرز من شعره، فلعل أحد الباحثين يتصدى للكشف عن السخرية في شعره محلِّلاً ومتأملاً؛ ليكون البحث مكملاً لهذه الدراسة).
هذا، وقد أبدع المؤلف حماه الله في دراسة هذه الظاهرة (السخرية)، وهذا من وجهة نظري يعود إلى أمرين؛ أولهما: اكتمال أدوات البحث وعدَّته في شخص سعادة الدكتور القدير عبد الله بن عبد الرحمن الحيدري حفظه الله. وثانيهما: حبه وميله إلى التلذُّذ بقراءة الكتب الهزلية والأبحاث الساخرة، فيقول: (ومع أنني في حياتي آخذ الأمور بجدية واهتمام فإنني في المقابل أهفو إلى قراءة الكتب الساخرة، وأتعلق بالكتَّاب الساخرين، وخصوصاً إذا كان القالب فصيحاً لا تتسلل إليه الكلمات العامية أو المبتذلة).
وأما هيكل البناء البحثي الذي قام على إثره هذا الكتاب، واتكأت على جانبه هذه الدراسة، فيأتي كالتالي:
حاول المؤلف أن يعالج ظاهره السخرية عند الأديب حسين سرحان عبر ثلاثة فصول، ففي الأولى تناول تعريف السخرية ومفهوم السرحان، ثم أشار إلى أطوار السخرية وتدرُّجها عبر مراحله الكتابية الأربع، وهي التالية:
الأولى: من 1349 1360هـ.
الثانية: من 1365 1382هـ.
الثالثة: من 1383 1400هـ.
الرابعة من 1401 1413هـ.
وفي فصل الكتاب الثاني عُني بالحديث عن دوافع السخرية لدى السرحان وظهورها في نثره: مقالة وقصة ومقابلة صحفية.
وفي الفصل الثالث أقام موازنة بينه وبين الكاتب المصري الساخر إبراهيم عبد القادر المازني؛ لاشتراكهما في هذه الظاهرة، ولكثرة ما قيل عن تأثر السرحان بالمازني.
وفي تتبُّع تاريخي من المؤلف لظاهرة السخرية أشار إلى أن جذورها التاريخية تعود إلى الآداب اليونانية القديمة، وهي منهج جدلي يعتمد على الاستفهام مع الظاهرة بالجهل بقصد جعل الطرف الآخر في المحاورة يُدلي برأي خاطئ يُضطر إلى تصحيحه بنفسه، وهي وسيلة أدبية فعالة في معالجة عيوب المجتمع؛ مثل ابن المقفع والجاحظ وغيرهما. والمتتبع لكتب الجاحظ؛ مثل (البيان والتبيين) و(الحيوان) و(البخلاء)، يلاحظ أن مؤلفها مرح من الدرجة الأولى، بل غالباً ما يبطن سخريته وهزليته بقالب الجد، أو يأتي بالنادرة لتدل مباشرة على ما يريد، وقد كان يخلل النوادر بين فوائد كتبه، وفرائد مصنفاته، ودُرر مؤلفاته, بل إن روح السخرية عالية خصبة عند الجاحظ، وقد كان يعشق ظرف الأعراب ومُلَحَهم ونوادرهم، فيقول في أحد كتبه: (وظرف الأعراب لا يقوم به شيء). وهذه الهزلية عند الجاحظ لا تقتصر على عيوب مجتمعه ومثالب زمانه، بل تعدَّتها إلى السخرية التهكمية بنفسه وبملامحه الخلقية، و(بُخلاء) الجاحظ مثال حي وشاهد عيان على نمط من أنماط السلوك البشري الممقوت الذي أبرزه الجاحظ بسخرية أدبية، وتهكمية هزلية، فجاء الكتاب تحفة أدبية ثرية، طالما قرأها الناس وتلذَّذ بها المتلذذون، واستمتع بها المستمتعون من جانبين اثنين:
الجانب الأول: من جانب بلاغة الجاحظ وفصاحته لفظاً ومعنى حينما كان يروي قصص البخلاء، كتلك المحاورة الجدلية التي جاءت بين سهل بن هارون وغلامه المسرف على حدِّ ما ألمح إليه سهل وهو يعدد فوائد رأس الديك الذي رمى به ذلك الغلام ولم ينتبه لما فيه من فوائد وجواهر.
الجانب الثاني: محاولة معالجة عيوب المجتمع ونقائصه، وهي كما جاء على لسان الكتاب: (تقود إلى التحليق فوق عالم النص النثري، والتقليل من أهمية الفوارق المحسوسة، وهي طريقة في التعبير تتوجه إلى وسط اجتماعي وتفكر في شيء لتقول شيئاً آخر على طريقتها).
والسخرية لها ثلاثة مستويات:
1 مستوى الإضحاك اعتماداً على المفارقات وتعارض القيم الوجدانية.
2 المستوى النقدي، وتمتص فيه قوته من خلال الاتصال المباشر، وتقدم ضمانات سياقية تجعل النقد مقبولاً، وهنا نجد كلمات مثل المزاح والمداعبة بين الأصدقاء.
3 في المستوى الثالث نجد النقد يتجه نحو الهدف منفصلاً عنه منتصراً عليه، فترد عبارات مثل التهكم والسخرية (بمعناها الخاص).
والسرحان شبيه الجاحظ في سخريته؛ فكلاهما تصدر السخرية عنده من رسالة وهدف وغاية، وليس الأمر عفوياً ليسلي به القراء ويرفههم. ويشير المؤلف حفظه الله تعالى إلى أن المقالات الساخرة تشكل ما نسبته 25% من مقالات حسين سرحان عليه رحمة الله وغفرانه، ويغلب أن يكون مضمونها اجتماعياً أو قصصياً أو ذاتياً.
وأما صفة الإنسان الساخر فهو إنسان ذكي، رقيق الحس، مستوفز الشعور، عميق الإدراك لطبائع النفوس وحقائق الوجود والكون، وكل ما يسم الواقع المثالي ويعاكسه يصبح في نظر الساخر هدفاً للمقاومة.
وتحت عنوان: (مفهوم السرحان للسخرية) عمد المؤلف رعاه الله إلى تتبُّع ما قاله السرحان في مقالاته عن ظاهرة السخرية؛ كي يتحف القارئ بمعاني التهكم والهزل عنده، فيقول في مقالته (التباهير) عن السخرية: (أن تسخر من عيوبك في عيوب الناس الآخرين). ومن مقالته (أنا بين الداء والأدواء) جاء ما نصُّه: (مَن يراني أو يسمعني يقول: إني ساخر بالحياة وبكل ما فيها من دواعيها، ولكن الواقع غير ذلك؛ لأن الحياة تسخر به أبلغ السخرية، ثم تجعلني أداة في يدها لأسخر منها من باب التعويض، وهو تعويض كاذب). وفي مقالته: (انهمار لا تليه أفكار) يقول: (إن الهزء بالنفس هو أول الطريق إلى السخرية، والذي لا يقبل النقد بحال من الأحوال ويترفع عنه، ويسمح لنفسه أن ينقد وليس عليه أن يناله النقد، فإنه يُعبِّر بذلك عن سوء طبيعة مركَّبة فيه). وفي مقالته المعنون لها بالعنوان التالي: (السخر عند المازني) يقول ما فحواه: (وسخر العطف والرثاء، وهو يشبه السخر الذي ترمز إليه ذروة الطود عندما تنهمر عليه شآبيب المزن، فتعرف أن هذه الشآبيب مهما أغدقت وأغرقت لا بدَّ أن تنزلق عن صفحتها).
والسرحان يؤمن بمراعاة مقتضى الحال، وأن لكل مقام مقالاً، ولكل حادث حديثاً، فمقالاته الساخرة تشكل ما نسبته 25% من مقالاته كما مرَّ بنا قبل قليل، ومقالاته الجادة تشكل ما نسبته 20% تقريباً، ومعظمها من المقالات التأملية والأدبية والسياسية والمقالات الشخصية والرسائل المقالية. وأما بقية مقالاته فيمكن وصفها بالحيادية، وهي تشكل النسبة الأكبر، ومعظمها مقالات ذاتية ووصفية وصحفية، أو عروض للكتب، أو إجابة عن أسئلة من جريدة أو مجلة.
ومن خلال ما سبق نلمح ذلك الخيط المتين من التشابه بين السرحان وأديبي العربية المتألِّقَيْن عمرو بن بحر الجاحظ وعبد الله بن المقفع، وفيهما يقول السرحان:
أحادثُ فيها (الجاحظ) الفذَّ تارة
وآونةً أُصغي إلى ابن المقفَّع
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|