Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
الملف
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 

رمز الانتماء
د.علي بن محمد الرباعي

 

 

لا يمكن لأي مجتمع متحضر أن يغفل قيمة التراث الشعبي، أو ما يسمى بالموروث الشفاهي والسلوكي، أو ما يندرج ضمن الأعراف والعادات والتقاليد، إذ إن نتاج الشعوب في كل مرحلة يمثل مصدراً من مصادر الثقافة، وملمحاً من ملامح النتاج الإبداعي فكرياً وإنسانياً ومعرفياً ومهنياً، فلكل جانب من حياة أجدادنا وآبائنا قيمة فنية، أو إنسانية أو جمالية، تستوجب منا وتحتّم علينا الالتفات لها والعناية بها وإعادة قراءتها لفهم الواقع وقياس مستوى التحولات الاجتماعية التي مرت بها الهجر والقرى ورصد التراكم المعرفي للإنسان من زمن الدابة حتى زمن الآلة.

ولا ريب أن تضخم الذوات يحجب الرؤى الحقيقية لما يحيط بالإنسان وبما كان عليه في عصر مضى وما سيؤول إليه في عصر لاحق، ومن التضخم المشؤوم تولدت فكرة التنكر للموروث والتراث والفلكلور، ما يعني إغفال الأرضية التي انطلق منها الكائن الحي، وانبتاته عن أصوله وجذوره، وإهماله لدور أجيال مكافحة ومنصهرة بالجلد والنضال والإنتاج وحب الحياة مع إتقان التعبير عن هذا الحب من خلال مناسبات وكرنفالات شعبية خالدة وعصية على النسيان عند الأوفياء.

وسيجد المتابع لآراء المثقفين ورؤيتهم للتراث والمأثور الشعبي أن هناك توافقاً بين وجهتي نظر المفرطين من أنصار التيار التقليدي، والتفريطيين من أتباع الحداثة ومنظروها، ففي الوقت الذي نظر متشددو السلفية للموروث نظرة استهجان وإنكار باعتباره عادات منافية للشرع، فإن بعض معتنقي الحداثة ومروجيها رأوا فيه مظهر تخلف وملمح رجعية مفتتنين بروح الغرب التحديثي علماً بأن الغرب يقدّس الموروثات ويفيد منها في كثير من المناشط والبحوث والدراسات؟.

فيما ظل للمنصفين المتميزين بالوعي والمتسلحين بالهمة وطول النفس، دورهم الريادي في التنقيب والبحث والتوثيق لكل ما هو قديم من بقايا السالفين من الشعوب وبذل الجهد الخارق في حماية (المثيولوجيا) من الاندثار والطمس مستعينين بالذاكرة الشفاهية والبيئة المكانية والنمط السلوكي والمعيشي لسكان موقع ما يراد الإلمام بواقعه الاجتماعي في فترة زمنية سابقة باعتبار أن الحضارات نتاج فكري وعطاء من وجدان حي وقادر على التكيف مع ظروفه وليست قوة اقتصادية ولا ثروة زراعية أو نفطية.

وفي كل سانحة نستعيد معها أسماء الأعلام الكرام ممن أسهموا بجلاء في خدمة الموروث وتوثيق الأدب الشفاهي والحالة الاجتماعية والفلكلورية لمنطقة من المناطق يرد اسم الأستاذ علي بن صالح السلوك الزهراني كأحد الرموز الفريدة التي عملت بصمت وأثرت المكتبة العربية بنتاج ضخم ومعبّر ضم بين صفحاته صوراً من أنماط المعيشة والتفاعل الإيجابي والحضاري لأهالي غامد وزهران وجمع بمفرده ما تعجز عن جمعه دارة أو مراكز أبحاث أو جمعيات علمية إلا بعنت ومشقة وجهود جماعية متظافرة، فجاءت الأسفار الخمسة شاملة للحكم والأمثال والعادات والتقاليد والفنون والفلكلور مستشهداً بالمأثور، ومفسراً للألفاظ وموضحاً ومبسطاً للمعاني، ولا أخال المشروع العملاق خلواً من أخطاء غير مقصودة أو تجاوزات عفوية لأن جمع المادة اعتمد على ذاكرة بشرية تسترجع ما مر بها من عقود دون توثيق أو تدوين فتكون حتمية التفويت أو الإحالة المتوهمة واردتين في كل الأحوال لتتاح لمن يأتي بعد السلوك فرصة المراجعة والتصحيح والاستدراك.

أبا زهران طبت في نبلك وفي وفائك لمنطقتك وأهلك، وأحسب أن أعداداً كثيرة من الجيل المعاصر سيشعرون بغربة كبيرة بل قل اغتراباً عن بيئة ينتسبون إليها بالاسم لكنهم لا يعلمون عنها ولا يدركون من ملامحها وتاريخها الذي هو تاريخ جدودهم وآبائهم إلا أنهم ولدوا وعاشوا وعايشوا وماتوا، وهذا خذلان وجحود وسقوط في دائرة العجب بالذات المتضخمة بالوهم، ونكوص نحو بؤرة التنكر، فعناصر الشخصية السوية تعتمد أولاً في بنائها على الحس المنتمي لامتداد تاريخي زاخر ونابض بالحياة والمنجزات والعطاء الإنساني مهما تواضعت مخرجاته، وسيظل المنبت حقيقة هو العاجز عن استحضار امتداده لآبائه وأجداده وبيئته، ونحن في أدبياتنا حين نستنكر تصرفات البعض نقول عن صاحبها (أتركك منه هذا قليل أصل).

أبا زهران لن يهضمك التاريخ حقاً ولن يجحف على نتاجك زمن يتجلى فيه الإنصاف، عملت ولم تنظّر وحضرت ولم تغب وعندما ترجلت مرغماً كنت في قمة العطاء والتوهج وربما ينظر بعض الغلابة إليك على أنك (ضحية) لأنهم عاجزون حتى اللحظة عن تحديد ملامح البطل في زمن زئبقي يمكن فيه للصغار أن يتعاظموا ويدعوا بأنهم من يصنع البطولة؟!.

- الباحة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة