Culture Magazine Monday  16/04/2007 G Issue 195
فضاءات
الأثنين 28 ,ربيع الاول 1428   العدد  195
 

مساقات
لغة الطفل العربي: من المسؤول
د. عبد الله الفَيْفي

 

 

طربتُ (فكريّاً) لتلك الالتفاتة من صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز آل سعود، رئيس المجلس العربي للطفولة والتنمية، في دعوته - إبان مؤتمر (لغة الطفل العربي في عصر العولمة)، الذي أقيم مؤخراً بمقر جامعة الدول العربية، بتنظيمٍ من المجلس العربي للطفولة والتنمية وبالتعاون مع جامعة الدول العربية - تلك اللفتة الداعية إلى ضرورة تكاتف جهود كافة المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني في الوطن العربي من أجل حماية اللغة العربية والهوية العربية.

ولا ريب في أن اللغة هي نواة الهُويّة القوميّة في أي أمّة، وأن تهديداتها في الوطن العربي لا تكمن من الخارج، واللغات الأجنبية، فحسب، أو بفعل العولمة وحدها، ولكن الداء الأنكى ما ينخر في اللغة العربية من داخل السياق العربي، فهو الأشدّ فتكاً والأخطر تدميراً! بل لو كانت للعربية قوّةٌ، وحصانة ذاتية، ما اخترقتها فيروسات العصر الحديث وإنفلونزا طيوره.

إن اللغة العربيّة هي انتماء العربي، لا العِرْق ولا النسب، فالعربيّ هو من يُحسن اللغة العربية الفصحى، لا من كان من قحطان أو من عدنان. ولذلك فالفلبيني، أو الصيني، أو الروسي، الذي يُتقن العربية هو العربيّ حقًّا، لا مَن ينتمي إلى أرومة عربية بالاسم والنسب والقبيلة، وهو ذو رطانة أعجمية، أو سماجة عاميّة، وقد يُحسن لغات أخرى إلا لغة الضاد، وإذا قيل له في ذلك، احتجّ بالتخصّص! مع أن المفترض في المنتمي أن تكون لغته جزءاً من مقوّماته الشخصية، لا من تخصّصه العلميّ، فكيف بالمسلم؟!

إن اللغة انتماء في كل الدنيا، إلا في بلاد العرب اليوم؛ لأن: (من يهن يسهل الهوان عليه)! على أن من مفارقاتنا الغريبة - وإن لم تكن غريبة على أسلافنا الذين قال الله في عنادهم واستكبارهم ومغالطاتهم للحقائق، تارة باسم العادات والتقاليد، وتارة باسم تراث الآباء والأجداد: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (البقرة:170)، كما قال فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (المائدة:104)- من مفارقاتنا أننا ما فتئنا نبرّئ أنفسنا، ونلبس الحق بالباطل- وبتلك العقلية القديمة نفسها - فنعتذر عن مجتمعاتنا تعصّباً، وعمّا نهوى حميّةً، وبأسماء شتى، ونعوت مختلفة، تزيّن إلى أنفسنا ما نكره أن نكتشف قبحه، أو ما نُدرك خطره على صحتنا وعقولنا وحياتنا الاجتماعية السويّة، تماما كمدمن التبغ، أو المشروبات الروحيّة، أو (التفحيط)! فترانا نسمّي الهجين أصيلاً، ونجعل الماضي، بغثة وسمينه، تراثاً جميلاً، وندعو عاداتنا وتقاليدنا مجداً تليداً، نمسّك به الأجيال حتى لا يضيّعوه، أمّا إنْ هو ضيّعهم وأفسد نفوسهم وقابلياتهم، فلا بأس! مثلما نترامى على مأثورات عصور الانحدار اللغوي والانحطاط الثقافي، نعدّها عزًّا، نباهي به الأمم، ونفاخر به العالم من حولنا، غرباً وشرقاً، حالنا كالمريض يدعو حالته - إن أخذته العزة بالإثم - صحةً وعافية، وستأتي اليوم بدعة اليونسكو الحاثّة على (حماية التراث غير المادي) لتفتح لنا باباً جديداً من التردّي، لم يكن في الحسبان، لتُصبح كل (خزعبلة) في مجتمعاتنا - الغالبة عليها الأميّة العلميّة والحضارية - تراثاً، فقط لأنها موروثة، وما أكثر تراثنا غير المادي وغرائب أطواره، من الأفكار، والأساطير، والرموز، والطقوس، واللهجات، والنصوص، وهذه كلها لن يتسع لها متحف كالتراث المادي بطبيعة الحال، بل هي قمينة بمتاحف العقول والصدور، حين تُستنبش من الماضي، وتبتعث من ركام الأيام.

ولا شكّ أننا من أغنى الأمم بالتراث، ومنه التراث غير المشرّف، ولا المأسوف على اندثاره، كما نحن في المقابل من أغنى الأمم بالتراث الحضاري الراقي، الذي هو محلّ اعتزاز العربي حقًّا والحريّ بالإحياء والتخليد.

أمّا حين يُخلط الحابل بالنابل، والحق بالباطل، والمعقول باللا معقول، والماضي التليد بالماضي التعيس، والتراث العريق بالبِلى والرثاثة، تحت شعار برّاق- نهشّ له ونبشّ في غريزة بدائية ذهبت ببعض أمم الشرق بعيداً في تقديس الأسلاف- أمّا حين نفعل ذلك، فنحن على شفى سذاجة حينئذٍ أو استغفال عام.

على أن من أدوائنا في مجتمعاتنا الخليجية - التي نعتزّ بمحافظتها - حصر الشر (كل الشرّ) على الأصالة والانتماء في شؤون المرأة وشكلانيات التقاليد المتوارثة، غافلين عمّا هو أخطر من ذلك، على أجيالنا، ومجتمعاتنا، وتنميتنا المدنيّة، وهو لغتنا، وعاء الفكر والماضي والحاضر والمست قبل، بما قد تحمله من فساد البِنى والمضامين، وما تشكّله من المشاعر والأفكار والخيالات والسلوك، من حيث إن اللغة ليست بمحض أداة للتواصل، بل اللغة هي الإنسان، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بحيث يمكن القول: قل لي: ما لغتك؟ أو كيف لغتك؟ أخبرك من أنت؟ وما موقعك في العالم؟

مثلما أن من مهاربنا في المقابل، حين يحتدّ نقاش هذه الإشكاليات، أن لا نرى التهديد إلا أجنبيًّا، فنلوم العولمة، وندق ناقوس الخطر من اللغات الأجنبية، على حين أننا نحن بأنفسنا لا نألو جهداً في أن نخرب بيوتنا بأيدينا، إعلاماً، وتعليماً، ونشراً للعاميّات، وتكريساً لاستمرار نتاجها، الشعريّ وغير الشعريّ، فوق كل أرض وتحت كل سماء، وإلى الأبد! ذلك أن إنتاجاً إعلاميّاً ذا لغة عليلة، وفِكر سقيمٍ، وقيمٍ بالية - ناهيك عن أن يُقدّم بوصفه منبراً مشجّعاً على ذلك التهافت كله - لأخطر عشرات المرات من عملٍ إعلامي أجنبي، أو عربي غير منسجم مع بعض قيمنا الاجتماعية! لأن الأول يفتك بالعقول والنفوس، ويغرس مخالبه في لبّ الهويّة، وسيكون من العسير العسير إصلاحه، على حين أن الآخر، مهما ساء، يظلّ نمطاً محصوراً، ومنكراً داخليّاً حتى ممّن يُقبل عليه. فليت شعري، كيف تنحصر عقولنا غالباً في عيوننا ولا تديرها الرؤوس؟!.. عن أيّ طفل نتحدث إذن، أم أيّ لغة عربيّة نحلم بها؟! وهل اللغة سوى الحياة؟ هل اللغة سوى نبض القلوب والعقول؟ وكيف للطفل العربي أن ينتمي إلى لغة لا يسمعها، ولا حتى يتعلّمها على نحو سليم؟

كيف له أن يُحبّ لغته وهو لا يعرفها إلا نظريّاً، أو قُل يُخيّل إليه أن هناك شيئاً كان اسمه لغة العرب، وكان يا ما كان، في سالف العصر والأوان، أقوام غريبو الأطوار، يستعملون تلك اللغة الصعبة، يلوون بها ألسنتهم- كما في المسلسلات التاريخية، التي باتت في هُزالها سلوى كل مكروب - حتى جاء مهووس فارسي اسمه سيبويه، لم يستطع شيئاً فجاوزه إلى ما يستطيع، إذ حاول تقعيد العربية، فعقّدها على بني يعرب، فكان كمن أراد أن يكحل عينًا فأعماها!.. تلك هي صورة اللغة العربية لدى أطفالنا! حتى إذا فتح الله على العرب بفن المسرح والتمثيل، كانت اللغة العربية وأهلوها نماذج بشرية غرائبية، من الحمقى والمغفّلين، على حين شُخّص العاميّ، أمّي اللسان، في زيّ السويّ والعصريّ! فأنّى للطفل العربي بعد هذا أن يحترم لغته وهويته أو حتى يحترم ذاته؟!.. ثم ما دامت الحال على ما هي عليه من تردّ، فلِمَ لا نعد اللغة العربية بمثابة لغة أجنبية اليوم، وهي تكاد تكون كذلك بالفعل؟! بل إن وضعها لأعقد؛ لأن اللغة الأجنبية أجنبية، يتلقّاها الطالب بعيداً عن المنافس الذهني، اللهم إلا من لغته الأُمّ، وهي لغة أخرى مختلفة. غير أن العربية الفصحى مزاحمة بلغيّاتنا، الأُمّهات الحقيقيات، من اللهجات العاميّة، بخليطها العجيب الغريب، ما كان منه عربيّاً وما كان غير عربي.

ولكي يتعلّم طفل لغةً، هي لغته وليست بلغته في الوقت نفسه، أمرٌ بمثابة من يُطلب إليه أن ينزع قلبه ليستبدل به قلباً غيره، أو قل أن يُصلح عَِلّة فيه، ثم يعيده إلى مستقرّه! وللحديث صلة، إن شاء الله.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

* عضو مجلس الشورى aalfaify@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة