صدى الإبداع حرق الكتب في الثرات العلربي المنهج (23) د.سلطان سعد القحطاني
|
اتخذ الاستاذ ناصر الحزيمي المنهج التاريخي المتدرج منهجا لجمع مادة كتابه «حرق الكتب في التراث العربي» فقد قال في المقدمة «هذا جزء لطيف في حجمه جمعت فيه مامرّ بي من حوادث واخبار اتلاف الكتب في التراث العربي قصرته على نوعين فقط من الاتلاف.. النوع الاول: اتلاف السلطة للكتاب، وتتجلى السلطة هنا بجميع انماطها وتحليلاتها سواء كانت هذه السلطة تتمثل بسلطة الحاكم او المجتمع او الفرد او تتمثل بسلطة الايدويولجيا او العادات والتقاليد، وكان لها دور في اتلاف الكتاب ومطاردته ونفيه».
النوع الثاني: سبب شخصي فيما يتعلق بالناحية العلمية او العقائدية او النفسية.
واياً كان الحال في واحد من السببين او الاثنين معا فان الاتلاف يتم بناء على حالة من الحالات المذكورة فالتدين حيناً والزهد فيما كتبه حالة تمر بالكاتب في فترة من الفترات التي يمر بها، تجعله يزهد في مؤلفه بسبب الضغط النفسي او الايحاء السياسي والاجتماعي ويحدثنا التاريخ الادبي العالمي عن الكثير من الادباء والعلماء احرقوا بعض مؤلفاتهم او كلها، فالكاتب الروسي المعروف «جوجول» احرق مكتبته بكاملها بسبب التأثير الديني قبل ان يحج الى بيت المقدس في سنة 1848 وبعد عودته استبد به الندم والاكتئاب على ما فعل حتى مات في نفس السنة كما ان الكاتب والشاعر السعودي المعروف حسين سرحان احرق مكتبته او بعض مقتنياته من الكتب اكثر من مرة في فترات حماس ندم بعدها، فالاتلاف على انواعه من حرق وغسل واخفاء وضياع امر وارد في الثقافة العالمية منذ القدم ولو ان المؤلف اتخذ منهجا علميا في بحثه عن الاسباب المؤثرة وتقصاها في دراسة علمية مقننة للنصوص التي درسها وابتعد عن الصبغة الاكاديمية الثقيلة ليكون الكتاب اقرب الى الثقافي منه الى الاكاديمي المتخصص لكان مفيدا من الناحيتين الثقافية والعلمية المتخصصة والمؤلف هنا يحاول المزاوجة بين القراءة العامة والمنهج العلمي، لكن منهج النقل المباشر بما يشبه الخبر كان المنهج المسيطر على اجزاء الكتاب، فالقارئ يأخذ معلومة جاهزة سلفا لم تظهر فيها شخصية المؤلف، اكثر من ناقل جامع.
الكتابة
تعرض المؤلف الى قضية الكتابة في صدر الاسلام وزمن الخلفاء الراشدين، وهو الزمن الشديد الحساسية بالنسبة للكتابة حيث كتب القرآن الكريم وبقي على نسخة واحدة «المصحف الامام» واحرق ما سواها من النسخ، خوفا من التحريف في الكتابة من ناحية وانشغال الناس بالكتب عن القرآن الكريم من ناحية اخرى وقد استشهد المؤلف بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول «إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب»، ومن المعلوم ان الحفظ يشكل سيادة في الامة التي لاتقرأ، فالاعتماد على الذاكرة الشفوية هو السائد في رواية الحديث، ورواية القصة الخبرية وما يتناقله الناس من الشعر، وكان منهج السلف الاول منهج الحفظ دون الكتابة فهم يرون ان الكتابة تضلل الناس وتقلل من هيبة العلم في الصدور وسهولة استظهاره في اي وقت شاء صاحبه، مما لا يمكن استحضاره لو كان مكتوبا، ومن ذلك ما يرويه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما انه كان ينهى كتابة العلم ويقول انما ضل من كان قبلكم بالكتب، ومن المعروف ان العرب كانوا يعتزون بالحفظ ويذمون الكتابة قبل الاسلام، فهذا موروث عربي قديم، لكن الاسلام غيّر من هذه العادة وامر بالكتابة، فالقرآن الكريم يأمر بالكتابة، كما امر بالقراءة من قبل، والدليل على امية النبي قوله «لست بقارئ» واول اية نزلت فيه تأمر بالقراءة {اقًرأً بٌاسًمٌ رّبٌَكّ الذي خّلّقّ } ثم يأمر الله تعالى بالكتابة في المعاملات وتسجيل اسماء الشهود وحضور الكاتب {يّا أّيٍَهّا الذين آمّنٍوا إذّا تّدّايّنتٍم بٌدّيًنُ إلّى" أّجّلُ مٍَسّمَْى فّاكًتٍبٍوهٍ} والغريب في الامر كره ابن عباس والشعبي وابن شهاب والنخعي وكثير من الصحابة والتابعين للكتابة، ويعود ذلك إلى قوة الذاكرة التي يتمتع بها كل منهم، والتدريب المستمر على الحفظ ومذاكرة العلم باستمرار، وقد ذكر الكاتب والناقد السعودي ابراهيم فلالي في بحث قام به عن ابن عباس، في منتصف القرن العشرين، قال فيه: «مامرت عين ابن عباس على شيء الا سجلته، كآلة التصوير، وما سمعت أذنه شيئاً الا سجلته كآلة التسجيل» ومن المفارقات ونحن ندرس اتلاف الكتب في التراث العربي ان نجد ان هذا البحث قد اغتيل بسبب هذا التشبيه، وحقق مع مؤلفه، كيف يشبه عين وأذن ابن عباس بالآلة، وهي من صنع الكفار؟ واخذ عليه التعهد بألا يصدر هذا الكتاب وان كان العلماء قد شغلوا في العصرين «الاموي والعباسي» بكتابة العلوم، فان العرب في البوادي وبعض السلف في الحواضر كان يحتقر هذه الطريقة، وان الشعر مغنى والعلم منطوق فيقول الاصمعي ان يونس بن حبيب سمع رجلا يقول:
استودع العلم قرطاسا فضيعه
وبئس مستودع العلم القراطيس
فقال يونس «قاتله الله ما اشد صيانته للعلم، وصيانته للحفظ» وهذه قضية يجب الانتباه اليها، وقد ادركها علماء المسلمين، وهي خوف السلف من الانشغال بالكتب عن القرآن في بداية عصره، والتحريف الذي وجدوه في كتب الديانتين «اليهودية والنصرانية» ومن ذلك ما قاله عبدالله بن يسار: سمعت علياً يخطب يقول «اعزم على كل من كان عنده كتاب الا رجع فمحاه فانما هلك الناس حيث تتبعوا احاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم».
وكان شغل السلف الاول الحفاظ على القرآن الكريم، وألا ينشغل الناس بغيره، فكان حرق الكتب وغسلها امرا عاديا عند العلماء وطلابهم، ومنها ما ذكر عن ابن مسعود عندما قدَّم اليه بعض طلبة العلم صحيفة فيها حديث فغسلها، وعندما المح عليه اصحابها قال: ان هذه القلوب اوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره، ويقول المؤلف في نهاية هذا الباب: عن مثل هذه المواقف اوجدت نوعا من الجرأة المبررة على اتلاف المدون «الحديث النبوي» ما عدا القرآن، وعليه فمن باب اولى ان يتلف ما عداه فيما بعد، والذي شمل كتب الرأي والكلام وغيرها، حيث يحتج المتأخر بفعل المتقدم ومسلكه، وهو موقف خدم كثيرا السلطة الابوية التي انتقلت من طور الى طور آخر اكثر نضجاً واتساعاً.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|