هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات مجموعة.. إنسان!! (22) بقلم/علوي طه الصافي
|
حين كنت أعمل في مكتب وزير الاعلام يومذاك الصديق «الدكتور محمد عبده يماني» سكرتيراً للشؤون الصحافية، والإعلامية.. بادرني الدكتور في أحد الأيام بسؤاله: ما علاقتك الشخصية بالأمير خالد الفيصل؟
أجبته: إن خالد الفيصل علم على رأسه نور.. وأنا مجرد مواطن بسيط يعمل بمكتبكم نهاراً.. وأتعاطى الصحافة مهتماً بالأدب «هواية» مساء!!
قال لي الدكتور يماني: أعرف ذلك.. لكن سموه تحدث عنك بما يوحي بوجود علاقة شخصية بينكما.. كأنه يعرفك جيداً.. لقد قابلته في مجلس الوزراء فطلب نقل خدماتك إليه شخصياً لتكون رئيساً لتحرير المجلة التي سيصدرها في أبها.. فسألته: هل وافقت على طلب سموه؟ رد علي: أنت تعرف مكانة خالد الفيصل عندي..ومثله لا يرفض له طلب.. لكنني اعتذرت بحاجتي إليك..وشعرت من حرصه على اسمك رغم وعدي بترشيح شخص غيرك أن علاقة شخصية حميمة تربطكما ببعض!! لم يكن الوقت مناسباً للحديث عن بدايات معرفتي بسموه مع الدكتور وهي بدايات عابرة، أجد الآن الوقت المناسب لروايتها.
لقد قابلت سموه أول ما قابلته في صالونه الأدبي بالرياض حين كان مديراً عاماً لرعاية الشباب وكانت تابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية هذا الصالون الذي يستقبل فيه بمنزله من يقصده من العلماء، والأدباء والشعراء.. وغيرهم.
كان الصالون ليلتها يزدان بكوكبة ممن أشرت إليهم أعرف منهم الأساتذة «عبد الله بن خميس وعلي العمير وعبد الله نور، والشاعر الفلسطيني فواز عيد يرحمه الله».. كنت طوال الأمسية صامتاً أسمع دون مشاركة في الحوارات الدائرة، لأنني كنت أصغر الحاضرين سناً، وعلماً!!
هذه هي أول مرة أشاهد فيها الأمير خالد الفيصل الذي شدني إليه بشخصيته المتميزة.. وقدرته على ادارة دفة الحوار بأسلوب حضاري رغم أنه كان في العقد الثالث من عمره!!
والمرة الثانية كانت حين ذهبت مع الصديق الأستاذ خالد المالك رئيس تحرير جريدة الجزيرة لتعزية سموه في وفاة والده «الفيصل» وكان مقيماً في إحدى «فلل» فندق صحاري بالاس» بالرياض وكنت يومها مشرفاً على صفحات الأسبوع الأدبي بجريدة الجزيرة.
حين دخلنا على سموه وجدنا أن الصديقين الأستاذين تركي عبد الله السديري رئيس تحرير جريدة الرياض ومحمد أحمد الشدي رئيس تحرير مجلة اليمامة حينذاك، وجدنا أنهما قد سبقانا لأداء واجب التعزية.
كان الجرح ساخناً لهذا كان حديث سموه طوال الجلسة عن والده الشهيد.. روى لنا قصصاً عن حياته الخاصة والعامة.
كان يحدثنا والحزن الكبير يسكن قلبه.. ويتطاول هذا الحزن ماداً عنقه ليلامس كل حرف من حروف حديثه الذي يجري على لسانه.. كانت كلماته مكلومة، مشروخة.. ولولا إيمانه العميق بقضاء الله وقدره، لبكى، وأبكانا معه.
ثم توقف الأمير عن الحديث.. فتوقف معه نهر الحزن عن التدفق.. ليعاود جريانه مع لغة العشر من خلال القصيدة «النبطية» التي كتبها سموه في رثاء والد الجميع.. وشهيد الجميع.. بناء على رغبة الحاضرين.. والتي مطلعها:
لا هنت يا راس الرجاجيل لا هنت
لا هان رأس في ثرى «العود» مدفون
وقد أعجبت بالمعنى الجميل في عجز البيت الذي قال فيه «وعود الشوف مطعون» مما يذكرك بالمعنى الوارد في آية من سورة «الملك» التي قال فيها سبحانه وتعالى: {(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) } الآية.. وعجز البيت «وعود الشوف مطعون يحمل معنى «وينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير».. وهذا ما يسميه بعض النقاد ب«الاقتباس» وبعضهم يرى فيه «تناص» وثالث يعده «سرقة» والحقيقة انه أقرب إلى «الاقتباس» من ناحية، أو «التناص » من ناحية.
وبعد أن انتهى سموه من إلقاء قصيدته الرثائية العصماء.. حرص كل رئيس تحرير كان في المجلس على أسبقية نشرها.. فأخرج سموه.. ثم قال لهم بكل مودة: كلكم اخواني وجميعكم في عيني الاثنتين سواسية.. ثم صمت يشد اهتمام الجميع.. بعده قال: سأعطي القصيدة للأخ «علوي» بصفته محايداً لا يمتلك جريدة يرأس تحريرها سأحمله هذه المسؤولية، لأرى كيف يتصرف؟
وأسقط في يدي، أثناء استلامي القصيدة.. وكان شعوري متوعكاً بالذهول يئن تحت ثقل، ووطأة جبل المسؤولية التي حملنيها سموه مصحوبة بالاعتزاز لثقة سموه بي.. وقد ظن الأصدقاء رؤساء التحرير بي ظناً حسناً.. وهو أني سأوثر جريدة «الجزيرة» بالقصيدة بحكم عملي بها مشرفاً على الشؤون الأدبية والثقافية.. ويبدو أنني يومها خيبت حسن ظنهم.. لأن المسؤولية الصعبة التي شعرت بها أكبر من علاقة العمل.. ورغم أنني وجدت نفسي في موقف محرج، وصعب، إلا أن الله ألهمني إلى قرار ارتضيت به، جميع أصدقائي رؤساء التحرير، وعلى رأسهم سمو الأمير خالد الفيصل، شاعر قصيدة الرثاء.. وهو أن تقوم كل الصحف بنشرها في يوم واحد.. وبما أن مجلة «اليمامة» تصدر صباح الجمعة، فإنني سأتولى طباعة عدة نسخ من القصيدة لتوزيعها على الجميع بعد ظهر يوم الخميس في وقت واحد.. فرحب الجميع بالفكرة.
الرياض عائدا إلى أبها مقر اقامته الدائم بصفته أميراً لمنطقة عسير.. ثم أضيفت إليه إمارة «بيشة» يومها مما زاد من حجم مسؤوليته.. وهو أهل لما هو أكثر من ذلك..والرجال، الرجال دائماً تُلقى على كواهلهم المسؤوليات الثقال.. والشاعر يقول:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
في الطريق إلى مكاتب مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر بالناصرية سألني الصديق العزيز خالد المالك سؤالاً محرجاً، أحسست معه أنه يضعني في اختبار صعب بعد يجس فيه قدراتي المتواضعة قائلاً: هل استوعبت حديث الأمير خالد الفيصل عن والده؟ فأجبته: تقريباً!! فكشف لي عن مكنون سؤاله بقوله: هل تستطيع اعادة كتابته لنشره في جريدة «الجزيرة» لأنه حديث ماتع، وجديد على الجميع؟
رددت عليه: أنت تطلب مستحيلاً.. لأن حديث سموه كان حديث مجالس.. وحديث المجالس أمانات.. وخيانة الأمانة بالنسبة لي دونها «خرط العتاد» كما يعبر أجدادنا العرب!!
قال مهونا الأمر: لا عليك.. ولن ننشر شيئاً إلا بعد موافقة سموه.. واتفقنا على هذا الأساس.. وحين وصلنا المكتب استحضرت ما سمعته بحذر.. وبعد أن أطلعت الأخ خالد المالك على المسودة بعلاتها.. أقصد بما فيها من كشوطات، وتشطيبات.. صفق بيديه إعجاباً.. وطلب مني أخذها والذهاب بها إلى الأمير فوراً قبل مغادرته مجلسه.
وفعلاً عدت إلى سموه.. فوجدته يجلس وحيداً.. وبعد المقدمة التي شرحتها لسموه شفهياً.. تبريراً لتصرفي ومحافظة على مشاعره الكريمة.. ومراعاة لجرحه الكبير.. وحزنه الأكبر.
لكنه، كان كريماً فرحب بامتنان.. وبدأ يقرأ مسودة الحديث كما هي دون طباعة، أو تبييض لها.. وكنت أقرأ في وجهه انعكاسات ما يقرأ، وبعد الانتهاء من القراءة لأكثر من عشر الصفحات أو أكثر التي كان الموضوع يتألف منها نظر إلي، وهو يصدر تنهيدة ساخنة قائلاً: بارك الله فيك، وفي أمثالك.. لقد كنت أمينا في نقل ما سمعته مني.. وإذا كان لي بعض النقد فهو انك كنت مبدعاً، وبخاصة في تحليلك لما هية «الزعامة»، وتعريفها، وهو ما ينطبق على الوالد.
لم يكتف بذلك، بل زاد من غروري الانساني حين قال: لو قدمت هذا الموضع لإحدى الصحف والمجلات الغربية، لأعطوك ما تطلب من آلاف الدولارات.. ومثل هذه الأمور يجب أن يعرفها الآخرون عن الشهيد، وحكمه، وتواضعه الفطري.. وسلوكه الخاص في العمل والمنزل.. وكيف يتعامل مع الآخرين أصحاب المصالح والحاجات.
فرحت لما سمعته فسألته: هل كلام سموكم هذا يعني موافقتكم على نشر الموضوع؟ فرد: الموضوع لا يخضع لموافقتي الشخصية لعلاقته بمن هو أهم، فدع لي الموضوع للاستشارة غداً صباحاً.. وفي العصر سألقاك في المطار لأخبرك بالنتيجة سلباً أو إيجاباً.
وفعلاً، ذهبت عصر اليوم التالي فوجدت الصالة الملكية مزدحمة بالمودعين من الأمراء، وغير الأمراء، فلمحني، وأشار إلي بيده، فذهبت إليه، والفرح يسبقني وداع فهمس في أذني: أنس الموضوع، لأن الموافقة لم تتم على نشره!! ورغم خيبة أملي طلبت من سموه الموضوع للاحتفاظ به ريثما تتغير الظروف، وتتم الموافقة على نشره.. قال: أعرف أنك تعبت في كتابته، وتعتز به.. لكنني أعدك بالاحتفاظ به، واعادته إليك في الوقت المناسب.
أمام رأي سموه الكريم، ورغم عدم احتفاظي بنسخة من الموضوع.. سلمت أمري لله وودّعت سموه.. وعدت مع رياح الرياض «الخماسية» ولم أسأل سموه عن مصير الموضوع إلى الآن رغم عملي معه لمدة ستة عشر عاماً.. فلا أعلم أمازال محتفظاً به.. أم أن طول المدة الزمنية لم تمكن سموه من الاحتفاظ به؟.
هذه بدايات معرفتي بالأمير خالد الفيصل قبل عملي مع سموه.. وحين اخترت لهذه «البدايات» عنوان «مجموعة.. إنسان» فانما اخترته استيحاء من قصيدة له بهذا العنوان ربما قصيدة من حيث الاحاسيس مع أنه فعلاً مجموعة أناس، في إنسان!!
فهو ابن ملك كبير.. وأمير.. وإداري.. ورجل اقتصاد بحكم تخصصه في واحدة من أرقى جامعات أوروبا.. هي «اكسفورد».. ورجل تنمية.. وسياحة.. ورجل أدب، وفكر برئاسته لأكبر مؤسسة فكرية عربية.. هي «مؤسسة الفكر العربي» ومقرها بيروت.. ومدير عام مؤسس لأكبر مؤسسة خيرية عالمية هي «مؤسسة الملك فيصل الخيرية» التي تنبثق عنها «جائزة الملك فيصل العالمية» التي يرأس هيئتها بفروعها الخمسة «خدمة الإسلام الدراسات الإسلامية الأدب العربي الطب العلوم».. كما أنه مؤسس مجلة «الفيصل» الثقافية الشهرية ودار الفيصل للثقافة والنشر.. ولن ننسى مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الذي يعد من المراكز الفاعلة النادرة، بما يشتمل عليه من مكتبة ضخمة معاصرة، وآلاف المخطوطات الأصلية، والمصورة، ومكتبة أطفال.. وله نشاطه المنبري العلمي، والثقافي سنوياً، إلى جانب إقامته لمعارض كتب متخصصة ،يصدر مجلة دورية.
وهو إلى جانب كل ذلك.. إنسان شاعر مرهف الأحاسيس، حيث استطاع بشعره «النبطي» أن يكون مدرسة جديدة مستقلة لها تلاميذها الذين اقتفوا أثرها، وتأثروا بها في المملكة والخليج ورسام فن تشكيلي انطباعي متميِّز بخطوط لوحاته وألوانها ومدلولاتها، وبيئتها المستمدة من بيئة المملكة.. وهو يرى أنه في رسمه لا يفكر ان يكون انطباعياً أو سريالياً أو تجريدياً ، لأنه يترك المسألة للنقاد.. محبي الفن التشكيلي.
بعد هذا كله ألا يستحق أن يكون «مجموعة.. إنسان»؟ وإذا كان هناك وجهاً للاستغراب.. فهو قدرته على جمع كل هذه الصفات في شخصه.. مع محافظته على شخصيته كانسان يحبه الناس.. ويحب الناس.. ولكن هذا الاستغراب يختفي، ويتلاشى أمام قدرة الخالق سبحانه وتعالى..الذي جلت قدرته والذي له في خلقه شؤون..وشؤون..
ص.ب7967 / الرياض 11472
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|