صدى الإبداع الفكر العربي في مواجهة الآخر د. سلطان بن سعد القحطاني
|
منذ ان انتقل العرب من جزيرتهم بشكل جماعي إلى العالم الآخر، على اثر الفتوحات الإسلامية في القرن الأول الهجري، واختلاطهم بالأمم المفتوحة وامتزاج الحضارات ببعضها، وهم متنازعون بين عدد من المرجعيات الفكرية، منها ما هو موروث من العهد الوثني، ومنها ما هو مكتسب من العهد الإسلامي الجديد، وثالث مكتسب من الثقافات الجديدة. ومن الخطأ الحكم الشائع، الذي مرده ان العرب في جزيرتهم كانوا معزولين عن العالم الذي يحيط بهم، مثل الحضارتين، الفارسية والرومية، بل كانت لهم علاقاتهم التجارية والفكرية والتبعة السياسية، في أطراف الجزيرة العربية الشمالية والجنوبية والشرقية، فالفرس كانوا يحتلون شرقي الجزيرة العربية وجنوبها إلى وقت ظهور الإسلام، وتبعية قبائل عرب الشمال لكل من الفرس والروم، فالمناذرة يوالون الفرس، والغساسنة يوالون الروم، وهاتان القوتان هما القوتان المسيطرتان على بلاد الشرق في الفترة التي سبقت الإسلام. أضف إلى ذلك العلاقات التجارية التي كانت تربط العرب بتجار الهند، عن طريق الموانئ اليمنية، في مواسم التجارة الخارجية، والتي كان لقريش الباع الطولى فيها، فيما يختص بتجارة الجنوب والشمال، وهي التي ذكرها الله تعالى في قوله: {لإيلافٌ قٍرّيًشُ ، إيلافٌهٌمً رٌحًلّةّ الشٌَتّاءٌ وّالصَّيًفٌ، فّلًيّعًبٍدٍوا رّبَّ هّذّا البّيًتٌ، الذٌي أّطًعّمّهٍم مٌَن جٍوعُ وّآمّنّهٍم مٌَنً خّوًفُ} فتجارة الجنوب في فصل الشتاء، وتجارة الشمال في فصل الصيف وتكاد المصادر أن تجمع على وجود ثقافة عربية في مواجهة عدد من الثقافات، منها الفارسية والهندية والرومانية، وما تعلق بتلك الثقافات من أصول لغوية وتقاليد موروثة من العهود القديمة، وما تحمله من ديانات الأمم البائدة. ولم يكن العربي بالمتعالي أو المهمل لتلك الثقافات على تعددها واختلاف مصادرها، بل كان ينقلها إلى قومه عن طريق الرواية الشفوية وأكثر من ذلك عندما يحاول تطبيق البعض منها على مجتمعه، ليس بمسخ ثقافته ليحل مكانها الثقافة الجديدة، ولكن بتطوير ثقافته وإضافة الجديد إليها، فالعربي مهيأ لتقبل الثقافات الجديدة، ولغته قابلة لاستيعاب المفردات الجديدة من اللغات الأخرى، ولا نبالغ عندما نقول إن اللغة العربية قد انفردت بهذه الخصائص، فالكثير من اللغات العالمية الحية أخذت من اللغات الأخرى وأعطتها مثلما أخذت منها، لكنني أعني من يقولون ان اللغة العربية لغة جامدة لم تستوعب ثقافة الآخر، وهذا قول فيه الكثير من الإجحاف في حق الاثنين، كما ينفي البعض حق الأمم الأخرى في تلاقح ثقافاتها بالمنجز العربي، في زمن انتشار الثقافة العربية، كقوة مهيمنة على العالم الشرقي، ومنجزاتها في أوروبا (حضارة العرب في الأندلس وحوض البحر الأبيض المتوسط) بل ان اختلاط هذه الثقافات هو الذي نشط الحركة الفكرية اليونانية، عندما ترجم أدبها وعلومها إلى اللغة العربية، ومن ثم تراجعت الترجمات من الشرق إلى الغرب، عندما قامت الترجمة من العربية إلى اليونانية في القرن الحادي عشر الميلادي، ونشرها في أوروبا عن طريق اسبانيا (الأندلس) ولا غرابة عندما نجد نسبة تفوق الثلث في اللغة المالطية من المفردات العربية، وما يزيد على النصف في اللغة الاسبانية والبرتغالية، ونسبة عشرين في المائة في اللغة الانجليزية. وإذا عدنا إلى مايقال عن لغة القوي وتفوقها، فسنجد انتشار اللغة العربية واستيعابها كان مستمراً إلى القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، قبل ان تسقط بغداد في أيدي التتار، سنة 656 1258م وأكبر دليل على استيعاب الفكر العربي للثقافات الأخرى وجود المفردات العديدة من اللغات الأخرى في القرآن الكريم الذي نزل بلغة العرب {بٌلٌسّانُ عّرّبٌيَُ مٍَبٌينُ} والنبي عربي أمي، لايعرف الكتابة والقراءة، وهذه معجزات النبوة، وهذه المعجزة هي التي ألجمت كفار قريش حجراً لم يستطيعوا بعده تلفيق التهم، بأنه جاء بهذا الدين من كتب الكهان وأسفار الأولين، وهذه المفردات نقلت بطريق الرواية الشفوية، كما ذكرت من قبل، وما كان لها أن تتعايش مع اللغة الأخرى (العربية) إلا لأنها متداولة بين الناس في الحياة اليومية، من بيع وشراء ونقل ثقافي متداول، فكان لوجود عدد من الأسواق العربية في أطراف ووسط الجزيرة العربية دور لاينكر في انتشار الفكر الثقافي، ونقل هذا الفكر إلى الثقافة العربية التجارية، فالسندس والاستبرق والقوارير، وغيرها من السلع التجارية نقلت إلى الثقافة العربية عن طريق التجارة، وتداولها الناس في الحياة اليومية، ونزل القرآن الكريم بما كان الناس يتداولونه، حتى من اللغات العربية (اللهجات العربية) في أطراف الجزيرة العربية، لم ينكرها الرسول صلى الله عليه وسلم بل استمع إلى وفود العرب بلهجاتهم، واعترف العلماء ان القرآن نزل على سبعة أحرف (لغات) قبل ان يوحده عثمان بن عفان رضي الله عنه ويأمر بكتابته على لغة قريش إكراماً للنبي، فأصبح المصحف العثماني (المصحف الإمام) هو المصحف المعبر عن اللغة العربية المقروءة، وما بقي لم يلغ بل بقي على أنه لهجات من لهجات العرب، يتداولها العامة من الناس إلى اليوم. فقلب الجيم ياء في لغة تميم، ما زال متداولاً بين الناس في شرق الجزيرة العربية، خاصة، وقد قالت الشاعرة التميمية تهجو شجرات لم تجد فيهن ظلا تستظل فيه، ولا جنى (ثمر) تجني منه طعاماً، فقالت:
"إذ لم يكن فيكن ظل ولا ينى
فلا بارك الرحمن من شيرات"
وألف لام التعريف، تقلب إلى (أم) في ساحل البحر الأحمر، في جنوب غرب الجزيرة العربية، وقلب الكاف إلى الشين (فيما يخص المؤنث المخاطب)، مايزال مستعملا في جنوب الجزيرة العربية، وقلب العين إلى النون، عند عرب الشمال، وقرئت الآية الكريمة {إنَّا أّعًطّيًنّاكّ الكوًثّرّ} (إنا أنطيناك الكوثر) وقلب الكاف إلى سين في وسط الجزيرة العربية (فيما يخص المخاطب المؤنث)، وعندما جاء وفد تهامة من المسلمين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بلغته، فقال خطيبهم: "هل من أم بر أم صيام في أم سفر؟؟" خاطبه الرسول بلغته التي يفهمها، فقال: "ليس من أم بر أم صيام في أم سفر"... أي ليس من البر الصيام في السفر إضافة إلى لغة هذيل ولغة قريش. فاللغة استوعبت وتعاملت مع القديم والجديد، فيما يمليه الفكر تجاه الآخر، إذن الخطاب الفكري محمول على اللغة، واللغة يحملها الفكر، بمعرفة قصد الآخر، فهي وسيلة التخاطب بين الطرفين، وقد أكد الله تعالى على ان كل نبي ظهر من داخل قومه، بلغتهم وما يحملون من فكر. ولم يعذب قوماً إلا بعد ان يبعث إليهم نبي منهم، يتكلم بلسانهم، وقد سأل موسى ربه ان يحلل العقدة من لسانه، لعل قومه يفهمون مقصده، كما يريد، ولايفسر قوله على غير مايريد، ولزيادة التأكيد طلب من الله ان يرسل معه، هارون، لأنه أفصح لساناً منه.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|