هؤلاء، مرَّوا.. على جسر التنهدات!! شاعر.. انتفاضة الشهداء 2/1 بقلم/ علوي طه الصافي (*)
|
عرفناه أول ما عرفناه شاعراً يتلفَّع بضوء القمر.. ويلتحف سماء النجوم.. ويتوسد رمل الصحراء.. ويغتسل على شاطئ الخليج.. ويعزف على ربابة حزينة مكلومة تحت أفياء النخيل.. ويصطاد صوره الشعرية من "جزائر اللؤلؤ".. وينظم عقود قصائده من "لؤلؤ الجزائر".. وفي "المحارات" التائهة على الشاطئ المهجور يختاره قوافية.. ومن "الأصداف" تنداح تشبيهات شعره.
في البداية، وهو يصطاد عصافير شعره المهاجرة نحو الموجة.. والريح.. والنسيم.. والآهة.. والالتياع.. وقوارب الصيد الشراعية.. لم يقف بعد على "مرسى".. أو شاطئ معين، التقى بالشاعر "نزار قباني" الذي كان يأسر قلوب العذارى.. ويتسلل من خصائص النوافذ الى مخادع المراهقين، والمراهقات.. كأنه طائر "الرخ" الأسطوري.. أو أحد الأطباق الطائرة التي ما تزال مصدر حيرة العلماء!!.
تعلق به خياله الشعري.. رافقه زمناً قصيراً من الوقت.. اجتاحته أزمة.. وابتلعته موجة.. ألقت به على يم شعر معه بالألفة.. فترك "قباني".. شرع في صناعة شبك صيد مستقل.. وجد نفسه سمكة من أسماك شبك الصيد المستقل بذاته.. وبنفسه.. تمرد على ذاته "المتأثرة" حين وجد ذاته "المؤثرة".. صار يبحث لنفسه عن "معجم شعري" خاص به.. كان مغامراً، فذاق حلاوة المغامرة.. اكتشف ان أعماقه تنزع الى "المغامرة" حيث وجد نفسه الطامحة الى "الاستقلالية" تبحث عن "الجديد".. وهاجسه يتطلع الى "التجديد".
وجد نفسه بين صفتين متناقضتين.. هما "الالتزام".. و"التمرد".. فهو ملتزم في تمرد.. ومتمرد في التزام.. لكنه يكره "الالزام".. وقف أمام "المتنبي" شاعر كل العصور في حالة انبهار، رغم "أنوية" المتنبي.. وتضخم الذاتية عنده!!.
نظم القصيدة "الخليلية".. كما نظم قصيدة "التفعيلة".. جمع بين "الأصالة".. وبين "المعاصرة".. كان تاريخاً في "حاضر".. وحاضراً في "تاريخ".
ارتدى "البنطلون".. تقبَّع "بالبرنيطة".. واختنق "بالكارفته".. لكنه لم يتخل عن "الغترة"، و"العقال"، و"العباءة".. أكل "الكافيار".. و"الهمبورجر".. لكن حنينه الأصيل الى "الجريش"، و"المرقوق"، و"الغول"، و"المطازيز" ظل متأصلا في أعماق أعماقه.
وقف على الخليج متغنياً به نشأة، ومعاشاً، وطفولة.. كان في شباب الحُب.. وحُب الشباب.
ثم وقف على "التايمز" ليفجر أنشودة "انتفاضة الشهداء" في فلسطين العربية، جرحنا التاريخي الكبير الذي لم يندمل، بل زاد اتساعا.. استشرى كالوباء الذي لم يكتشف علاجه.. كالمرض الخبيث الذي يسمونه "السرطان"!!.
كادت هذه "الأنشودة" ان تثير أزمة سياسية.. أصبح شاعر الدبلوماسية العربية الصامته.. دبلوماسية شعر الانتفاضة الفلسطينية العربية.
الشعر الهادر لا يلتقي مع الدبلوماسية الهادئة.. لا يتفقان منذ تاريخهما الموغل في القدم.. ولأن المتنبي كان شاعراً ثائراً فقد خسر معركة الدبلوماسية!!
الخصومة بينهما تمتد عبر كل حقب التاريخ البشري، قديمه، وحديثه.. هما كالليل والنهار.. والشمس والعتمة.. والحقيقة والخيال.. والنار والماء.. والثعلب والديك وصدق الشعور والمشاعر وكذبهما.. مع أنه كما أعرف لا يعترف بأن "أعذب الشعر أكذبه"، لأنه يرى فيها حسب تفسيري الشخصي انها مجرد مقولة انطباعية لناقد "طوباوي" فاشل.. ربما أراد مخالفة المألوف والمعتاد لعبارة أكل الدهر عليها، ولم يشرب!!.. وعموما فهي وجهة نظر شخصية تظل قابلة للجدل والنقاش، شاء أم أبى!! وهو بتكوينه النفسي مثير للجدل!!.
في بداية حياته حين تولى التدريس الجامعي تعارفنا حين كنت أكتب في مجلة "اليمامة" تحت توقيع "مسمار" الذي ظل معجباً به، وبجرأته، الى اليوم، ويحثني على طبع رسائله الموجهة للأدباء..وقد استطاع ان يفتح الكلية التي كان يدرس فيها على المجتمع، فأقام المحاضرات والندوات.. والأمسيات الشعرية، فلقي ما لقي من "المحنطين" وباعة الكلام الذي يضر أكثر مما يفيد، ويبني الجديد، ويهدم القديم الذي يرمز الى التخلف.
كان أول وزير للصناعة والكهرباء عند تأسيسها، ثم ضمت اليه وزارة الصحة.. وكسب شعبية كبيرة جعلته رجلا مثيراً للجدل في الصحافة بعمله الرسمي، وبصفته شاعراً أصبح له صوت مسموع.. انه الشاعر الروائي القاص الصديق الدكتور "غازي عبدالرحمن القصيبي" قال عنه الدكتور "محمد بن حمد القنيبط" في زاويته "أكاديميات" إن:
"الدكتور غازي القصيبي ظاهرة فريدة للبيروقراطي، أو التكنوقراطي تستحق الدراسة الأكاديمية مجلة اليمامة" تاريخ 13/3/1424هـ.
ولم يكتف د. القنيبط بالعبارة التي أوردناها آنفاً، بل عاد في عدد آخر يقول: "منذ ان ظهر غازي القصيبي على الساحة السعودية، لم يغب عنها، بل شغلها وأشغلها كأنه المتنبي، وهذه من عندي ، ثم شغل الساحة الخليجية أثناء احتلال الكويت، وأخيراً انتقل الى الساحة العربية منذ انتقاله للعمل سفيراً في بريطانيا، والى الساحة العالمية منذ كتابته قصيدة "لعيني آيات"، قبل ان يعود العام الماضي الى مجلس الوزراء على تذكرة وزيرالمياه "والكهرباء".
وأضاف: "وفي كل ساحة من هذه الساحات المحلية،والاقليمية، والعالمية، يشغل غازي القصيبي القاصي،والداني.. إن لم يكن بالأدب، فهو بالشعر أو النثر.. وإن لم يكن بالسياسة، فهو بالتأليف القصصي".
ثم قال:"باختصار، يرفض غازي القصيبي ان يتقاعد عن الساحة المحلية والعربية، شأنه شأن شيخ الشمل، تأبى عليه الشيم العربية الأصيلة أن يتقاعد؟ ولعمري فالى الآن يظل غازي القصيبي شعلة من النشاط، والحيوية الاعلامية، يرفض ان يترجل عن صهوتها، بل تراها هي التي تخطب وده" مجلة اليمامة "العدد 1763" في 5/5/1424هـ الموافق 5/7/2003م.
وأقول للأخ الدكتور "القنيبط".. لماذا تريد هذا الفارس الأصيل أن يترجل عن صهوة حصانه العربي، ما دامت كل الأشياء التي ذكرتها تخطب وده؟ إننا نحن العرب أهل الصحراء بطبيعتنا نعشق الأحصنة العربية الأصيلة.. ونردد ذكر الفرسان ومواقفهم في الملمات،وحين تدلهم الخطوب.. ويتطاير الغبار من وقع الحوافر.. ونتغنى بهم في شعرنا.. ونغذي بها أحلام أبنائنا.. فهل تحرمنا من هذا التاريخ المترسخ في ذاكرتنا، في عصر رمادي تكسرت فيه النصال على النصال كما يقول شاعرنا العربي.
في احدى المرات طلب مني أحد أصدقائي من أثرياء "الطفرة" التي مرت بها بلادنا.. كانت له مشكلة مع وزارة الصناعة.. تعشم في ورمي شحماً.. طلب مرافقته الى وزيرها الصديق "القصيبي" بحكم معرفته بصداقتي الأدبية به.. ومن منطلق صداقتي القديمة بثري "الطفرة" حين كان يملك حانوتاً صغيراً متواضعاً في رأسماله، في سوق شعبي أكثر تواضعاً، ذهبت معه الى الصديق الوزير.. فاسترسلنا طويلا في أحاديث الأدب، وشؤونه، وشجونه، وهمومه.. تحدثنا عن السرقات الأدبية الصغيرة، والكبيرة..وغياب قانون وسلطة حقوق التأليف والمؤلفين في شرقنا العربي.. مستشهداً بذكر شخصيتين تعدان من رموز الأدب على ساحة الوطن العربي.. أحدهما اعتدى على أفكار "مارجليوث"، ونسبها لنفسه، والآخر ترجم عشرات الكتب الى العربية لأنه يتقن أربع، أو خمس لغات أجنبية، واهماً القارئ العربي أنها من تأليفه.. وابداع ذهنه "الخنفشاري" المسكون بالغرور.. إنه كاتب "ارزقي" لا موقف له، ولا فكر، ولا أدب.. يعد وصمة عار علي جبين تاريخ الكتاب في بلاده.
وأنا أتفق مع كل ما قاله الصديق "القصيبي"، واختم بأصابعي العشرة.. وإن كنت أتمنى عليه أن يكشف المستور لتعريف القارئ، لأن الكاتب الثاني يرى نفسه طاووساً، والآخرين مجرد دجاج.. وحتى لا ينطبق علينا ما قاله "موشى ديان" إن العرب قوم لا يقرأون"!!.
صديقي الثري كان يتململ كأن تحته كانوناً من جمر النار، في الوقت الذي كنت فيه في منتهى السعادة.. لأنني وصديقي الوزير هذه بضاعتنا، وثروتنا، ولأن كلاً منا يمتلك "المناعة" الطبيعية ضد "ميكروب" الثراء والثروة.. وأرصدتنا تتمثل، وتتجسد في الكتب، وقراءة الكتب، لا في البنوك، والمشاريع، والصفقات التجارية والصناعية.. وعزاؤنا كما تقول الحكمة "العلم يحرسك.. والمال تحرسه"!!.
ولكي أكون واقعياً أكثر من الواقع اعترف أنني ذهبت مع صديقي ثري "الطفرة" دون أن أعرف ما هية مشكلته لئلا أجلب لرأسي الصداع في حديث أجهل ابعاده، وافتقر الى خبرة معرفة دهاليزه المتشعبة الملتوية!!.
فضلت ان يرويها للصديق الوزير مباشرة بنفسه، وبطريقته الخاصة.. وكانت النتيجة ان صديقي ثري الطفرة "خرج من المولد بلا حمص" كما يقول أشقاؤنا المصريون في أمثالهم، لأن الوزير كان على علم بالقضية.. ويرى ان الوزارة على حق في قرارها.. بينما صديقي كان يعتقد أنه بمثل هذه الواسطة.. يستطيع ان يلوي ذراع المسؤولين اعتسافاً بوجاهة الوزير الذي وقع القرار بنفسه بعد إلمامه بالقضية، ومخالفتها الصريحة للنظام، ومصلحة الموطن.. وقد أكبرت موقف الوزير الوطني، لأن التهاون في قضايا الوطن من أجل المصالح الفردية فيه خيانة لمصالح الواطن، وللمسؤولية السامية التي ينهض بها أي مسؤول في المرفق الذي يقوم به، صغيراً كان، أم كبيراً!!.
والوساطة عندي نوعان:"وساطة خير" لا تصادر أو تعتدي على حق آخر، أو حقوق آخرين، ولا تضر بمصلحة الوطن والعمل الوطني.. و"وساطة نفعية" تسلب حقا، أو حقوقاً لآخرين، وضد مصلحة الوطن، والعمل الوطني.. النوع الأول يضع الرجل المناسب، في العمل أو الوظيفة المناسبة.. والنوع الثاني من الوساطة فيه اعتداء على كثير من الحقوق، والواجبات.. ولا أزيد توضيحاً لواضح.
وبعد شهرين أو ثلاثة، أو أكثر لا أتذكر جاءني صديق أعرف أنه في الماضي كان ميسور الحال، لكن هذه الميسرة لا تصل الى المليون الواحد.. جاءني للذهاب معه الى صديقي الأديب وزير الصناعة، الكهرباء "القصيبي" وكان يرتدي "مشلحاً" من المشالح "السوبر" الغالية الثمن.. وحين حدثني عن جزء من مشكلته لدى وزارة الصناعة.. كان يتحدث بلغة عشرات الملايين، وبأسلوب من يمتلك عشرات الملايين فقلت في نفسي سبحانه الذي يرزق، ويغدق في الرزق، وسبحانه الذي يقدر في الرزق لأنه جل وعلا أعرف بعبيده، وهو الذي يتولى شؤونهم.. يجعل العالم الذي يسهر ليله من أجل المعرفة، وزيادة علمه يجعله فقيراً ينام على الحصير لحكمة إلهية.. ويجعل آخر ليس له في العلم ناقة، ولا جمل.. فهو لا في العير، ولا في النفير، يجعله مليونيراً، أو مليارديراً يمتلك القصور المسكونة بعشرات الخدم، والحشم.. ينام على وسادة ريش النعام.. وإذا ضغط "زر" الجرس وجد أمامه في الوقت نفسه أكثر من واحد يقول له "شبيك لبيك.. خدامك بين يديك" وله سبحانه في هذا أيضا حكمة لا نستطيع ان نصل الى ماهيتها.
+++++++++++++++++++++++++++
يتبع
(*) ص.ب: 7967 / الرياض: 11472
+++++++++++++++++++++++++++
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|