الدكتور سعد بن عطية الغامدي شاعر.. صاحب قضية والتزام علي محمد العمير
|
"2"
نعم.. نعم. نحن نعرف أن الشعر العربي الصحيح منذ عصره الجاهلي حتى الآن يهتم كثيرا بمطلع القصيدة حتى ولو كان المطلع مجرد دخول إلى مقدمة غزل، أو بكائية اطلال.. أو وصف ناقة كما هو الشأن في الشعر الجاهلي بخاصة.. أو في الشعر المخضرم.. أو في الشعر الملتزم بمذاهب القدامى!!
في كل ذلك أو غيره وحتى في عصرنا هذا يأتي الاهتمام بمطلع القصيدة في الدرجة الاولى.. ذلك أن المطلع هو في الحقيقة مفتاح القصيدة.. أو مدخلها الذي ندلف منه إلى رحاب القصيدة واجوائها!!
ودعوني أسترسل هنا فأذكر مجلساً ضمني مع أستاذنا الكبير "عزيز ضياء" وبعض الاصدقاء منذ زمن وكان الحديث عن الشعر حيث فوجئنا بالأستاذ "عزيز" يقول: ان مطالع القصائد العربية، وخاصة في العصر الجاهلي هي مطالع صاخبة تشبه قرع الطبول، وان ذلك لا يعجبه في الحقيقة!!
فبادرت مستنكراً، وأنا أمسك بطرف حبل الحديث حيث قلت: انك تعيب يا أستادنا القصيدة بأهم ما فيها، وتنكر ما يثبته فحوى كلامك من غير أن تشعر.. ذلك أن "الصخب" أو "قرع الطبل" أو "الاستفزاز" هو بالضبط ما يريده الشاعر الجاهلي، وهو ما يمكن ان نسميه "شد انتباه السامع أو القارئ" وما تسميه أنت "قرع الطبل" فقد كان الطبل يقرع فعلا لا لإثارة الطرب فحسب.. بل ربما للبشير أو النذير!!
التبشير بمقدم "سيل" مثلاً حيث كانت تقرع الطبول على طول امتداد مجرى "السيل" فما يمر بناحية حتى يقرع اهلها الطبول لتبشير اهل الناحية الاخرى التي يجري إليها السيل.
اما في "النذير" فإن قرع الطبول في غير وقت الطرب هو بمثابة إعلان الطوارئ كما هي صفارة الانذار في عصرنا هذا..! وكذلك المطلع في القصيدة الجاهلية!!
ونعود من هذا الاستطراد الذي جَرَّنا إليه الحديث عن "مطلع" قصيدة الدكتور "سعد عطية الغامدي" وهو ليس "صخباً" أو "قرع طبل" فحسب.. بل هو عاصفة لا تُبقي ولا تذر!! في كل زاوية دم.. في كل زاوية من الدنيا دم"!!
تقرأ هذا المطلع فتشعر ان كل الجراح التي كنت تظنها اندملت بالنسيان قد نكئت فجأة فانثال الدم من سائر انحاء جسدك الممزق.. أو جسدك الذي تكسرت فيه النصال على النصال حتى فقد الاحساس بعمق الجراح!! أو حتى "رخص الدم"!!
رخص الدم
رخص الدم
ان كان ينزفه هنالك مسلم!!
و"المسلم" الذي رخصت دماؤه.. لا يقول لنا الشاعر عنه.. كيف؟ ولا.. لماذا رخصت دماؤه.. فتلك ليست مهمة الشعر أو هدف الشاعر.
يكفي الشاعر أن يضعك في وسط "الأتون" بحيث لا يُبقي لك وقتاً للتساؤل عن اي عود "كبريت" شب منه كل هذا الحريق اذ لا فائدة من معرفة الاسباب هنا، معاناة الجراح النازفة لا تُبقي هي الأخرى وقتاً للتساؤل؟
ولكن الشاعر رغم ذلك يدفعنا إلى التساؤل.. ثم إلى "التفكير" دفعاً!!
يدفعنا وهو يعلم أن أدمغتنا قد غسلت، وان الكلام مجرد الكلام لا يحل للمسلم في ألف ألف مدينة إسلامية!!!
في ألف ألف مدينة مقهورة
حيث الكلام عن المآسي يحرم
لا الصمت مشروع هناك
ولا يحل تكلم"!!
تلك هي "المأساة" حقاً.. وكأن الشاعر بهذا المقطع يريد أن يضعنا "نحن القراء" على فوهة "البركان" بعد أن نكأ جراح صمتنا ثم يريدنا أن نتذكر لا أن نفكر فحسب!!
يريد أن يذكرنا بما كان من عزة هذه الأمة، المستباحة الدم الآن فيشير إلى ذلك مجرد اشارة ولكنها واضحة جداً.. ذكية جداً. حيث يذكرنا ب "المعتصم" عندما بلغه ان امرأة مسلمة هتك سترها أو عرضها في بلاد "الروم" فصرخت "وامعتصماه" فما كان من "المعتصم" الا أن قاد بنفسه جيشاً ضخماً أوله مشارف بلاد الروم، وآخره ربما في عاصمته فلما فتح من تلك البلدان ما شاء من فتوحات ارسل يبحث عن تلك المرأة حتى حضرت بين يديه فقال لها:
هل لبينا النداء؟!
قالت:
أجل.. وكرامة!!!
فهذه القصة المجيدة هي التي يشير إليها الشاعر بقصد أو بغير قصد حيث يقول:
والعفة.. الشرف العظيم.. الطهر يهتكه لمسلمة زنيم مجرم"!!
أجل.. أجل.. زنيم مجرم لا "معتصم" له!! وهنا أيضاً حيث يقول الشاعر السوري الكبير "عمر أبو ريشة":
رُبَّ وامعتصماه انطلقت
ملء افواه الصبايا اليتّم
لامست اسماعهم لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم!!
وها هنا "مكمن الدواء" فقد فقدنا مع كل ما فقدناه "النخوة" أيضاً حيث تلامس اسماعنا ملايين الصرخات المهتوكة، ولكنها لا تلامس أية نخوة حيث فقد منا حتى أعز ما تعتز به أمتنا: "النخوة، وحماية الشرف"!! بل اصبحت امتنا نهباً للتمزيق، والغدر، والظلم.
في كل ثانية تمزق أمة غدراً
وشعب يظلم
في البوسنة
في القدس
في بورما، ومهجة آسيا
في الهند
في كشمير
في أرمينيا
في الصين
في الأفغان.. يستعر الدم"
لله هذا التعداد الذي لا يجمل في شعر قط الا في هذا المقام، ولذلك جاء به الشاعر، وهو على ثقة من تعاطف النقد معه حتى ولو جاء بما لم يؤت به من قبل في سنن الشعر"!!
وهذا يؤكد لنا ان نقاد الشعر الحداثي لا يقصدون من نقدهم مجرد الغيرة على الوزن والقافية مع ضرورتهما بل يقصدون ان شعراء الحداثة كثيراً ما يضعون القول في غير موضعه، والا فإن هذا التعداد في قصيدة الغامدي لو خرج عن سياقه من القصيدة لما زاد عن طريقة حساب الدكاكين والبقالات الصغيرة!!
وكما يهتم شاعرنا بمطلع القصيدة ليضع القارئ في أجوائها بسرعة.. فإنه يهتم كذلك ب "حسن الختام" بحيث تكون الخاتمة هي الطرف الآخر للحلقة المدمجة، يلتقي في الوقت المناسب مع الطرف الاول "مطلع القصيدة" ليندمج فيه فتتكون الحلقة تماماً!!
وبذلك تكون القصيدة في النهاية حلقة محكمة وماذا عسانا نتوقع من ختام لقصيدة مطلعها "في كل زاوية دم" غير توقع المزيد من "الذل" و"الهوان"!!
كفان تغتالاننا
كفٌّ تجفف دمعة هنا
واخرى تلطم!!
والشاعر هنا يسير على خطى سلف له يقول:
يد تشجُّ وأخرى منك تأسوني
اللهمَّ لا تحرمنا من نفحات الشعر الرائع!!!
والى لقاء في حلقة قادمة إن شاء الله.
+++++++++++++++++++++++++++
alomaeer@hotmail.com
+++++++++++++++++++++++++++
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|