هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات شاعر يلتهب ناراً!! علوي طه الصافي
|
شجرة زيتون تتسامق عناقيدها في مواجهة الشمس والريح!!
بيارة (برتقال) تعكس تاريخ شعب عربي مناضل في سبيل أرضه المنهوبة الطاهرة بالمجد العريض، والكفاح المجيد في أغلب حقب التاريخ الإنساني المطرز بالمواقف الشامخة!!
وفي سبيل أهله وبيته، أهله الذين تغتالهم يد المحتل الأجنبي الآثمة بمباركة الدول الكبرى التي تدعي الحرية والديمقراطية والعدل وحقوق الإنسان، وتدعمها بالمال الوفير وأدوات الحرب الفتاكة على اختلاف أنواعها!!
وبيته الذي تدكه دباباتها ومنجزاتها وصواريخها صباح مساء, لم تترك شيئاً إلا أتت عليه، وشوهته، حتى المزارع بمحاصيلها الحية جرفت أوصالها، وعاثت فساداً وتمزيقاً لأحشائها وقطعت جسدها إلى أشلاء!!
تكاثر المشردون في أصقاع الأرض عربية ودولية وهو واحد منهم، لكنهم مع هذا التشرد لم يفقدوا هويتهم الفلسطينية، ولم يساوموا عليها، ظلت تخفق داخل ضلوعهم، أسكنوها مقل عيونهم، في أحلامهم وصحوهم، أرضعوها أبناءهم، وأحفادهم، وأسمعوا قضيتهم العالم من خلال قصائدهم الشعرية الملتهبة بالنار، المنداحة بالنجيع، حولوا أدبهم إلى صواريخ، وأنوار تفضح العالم المتقاعس عن نصرة حقوقهم المصادرة.
وصديقنا محور موضوعنا هذا هو الشاعر الفلسطيني (عبد الرحيم نصّار) أو (أبو مالك) عرفته من خلال عملي في مجلة (اليمامة) كمتعاون في الفترة المسائية التي تمتد من بعد المغرب إلى الساعة العاشرة لفترة قد تزيد على ستة أعوام.
ومعرفتي به ليست سطحية، أو مجرد علاقة اجماعية، عابرة، بل كانت معرفة أعمق من ذلك، معرفة لقاء فكري، وتناغم روحي، وانسجام نفسي.
يتميز الصديق (أبو مالك) بالصمت، لكنه يتفجر كالبركان، ويلتهب ناراً، ويتأجج حزناً، ويلتاع كمداً حين يكتب شعره المتعلق بقضيته الكبرى في الحياة (فلسطين) جرحنا العربي الإسلامي الكبير.
إذا قرأ قصيدة لشاعر آخر لامست كوامن أحاسيسه الفلسطينية الفائرة كالجراح، ينتفض من الداخل مارد لكتابة قصيدة معارضة يحملها نزيفه الذي لا يتوقف عن الغليان!!
أذكر أنه حين نشرت مجلة (اليمامة) قصيدة للشاعر الكبير الأستاذ (عبد الله بن خميس) بعنوان (يا دار) في العدد (187) أهداها لأبي مالك كأنه يستفز شاعريته، فرد عليه (أبو مالك) بقصيدة نارية بالعنوان نفسه (يا دار) نشرتها اليمامة في العدد (189) تاريخ 26121391هـ الموافق 11 21972م، وهي قصيدة طويلة نختار منها الأبيات التالية التي يستطيع القارئ استشفاف همومه الخاصة والعامة:
يا دار هل تنصف الأشعار يا دار؟!
وهل برصف القوافي يؤخذ الثأر؟!
في كل يوم لنا في الساح رائعة
من القصيد، وما في الساح مغوار
حتى المنابر ما تنفك هادرة
يصول قوافة فيها وثرثار
نرجو من الشعر نصراً فهو معجزة!!
من هولها معجزات العصر تنهار!!
ونركب الجدر الصماء نحسبها
خيلاً، ونحسب أن المجد أشعار!
فكيف هُنَّا على الأيام واندثرت
أمجادنا، ولدينا الشعر أسفار؟!
لو كان بالشعر ينصى المجد ما نزلت
بنا القوارع واستشرى بنا العار
ولا أذلت رحاب (القدس) عاهرة
ولا تسكع في التاريخ (ايار)!
عجبت من فكرنا المهزوم في زمن
تطير فيه إلى الأقمار أقمار!!
أوجاعنا لم تزل أقدار قافية
بل إن كل الذي نلقاه أقدار!
متى سندرك أن الجرح مهترئ
وليس ينفعه القطران والقار؟!
وأن تلك الروابي لن يحررها
إلا خميس من الأبطال جرار
يقوده مُلهمٌ، في كل معركة
تسيل من دمه المطلول أنهار؟!
وهل ترى الشعر أحرى أن يخلّصنا
من البلاء الذي فينا، أو النار؟!
ها نحن تسعون مليوناً ضمائرنا
ماتت وما هزَّنا للثأر إعصار!!
ولا ثأرنا لأمجاد ملطخة
في الوحل، يا أمتي هل فيك أحرار؟!
وإذا كانت هذه القصيدة في شكلها (كلاسيكي خليلي) فإنها لا تعني أن مساره ومسيرته الشعرية تسير على هذه الوتيرة، بل إن أغلب قصائده تنحو منحى القصيدة الحديثة، أو الجديدة (التفعيلية) يؤكد ذلك ديوان (الموت مرة واحدة) الذي استعرضه الأستاذ (سعد البواردي) في العدد (86) الماضي من هذه المجلة بتاريخ 2410 1425هـ الموافق 6122004م فليرجع القارئ إليه هذا الديوان الذي أهداه الشاعر (أبو مالك) إلى وطنه فلسطين الذي يسكن أعماقه، وتغلغل في فكره وتفكيره حيث قال في الإهداء:
لأن هواك نبض القلب
بوح المدمع في الوجدان
لأنك في دمي نار الحنين
ولوعة الحرمان
لأنك سر هذا العالم المسكون بالأحزان
لأنك أول الخيل التي انتحرت في الميدان
إليك قصائدي الأولى..
وهذا الديوان يعد باكورة شعره، حيث صدر في نهاية الثمانينيات الهجرية الموافق نهاية الستينيات الميلادية، أي قبل ما يقارب (36) عاماً، ولا نعلم فيما إذا أصدر له ديوان أو دواوين أخرى من تاريخ صدور ديوانه المذكور الأول يجعلنا نحسبه من شعراء الستينيات الذي يجايل سميح القاسم، ومحمود درويش، وفواز عيد، وغيرهم ممن برزت أسماؤهم في تلك الفترة.
والذي جعلني أعرف تاريخ صدور ديوانه الأول هو ما كتبه صديق الطرفين (محمد أحمد الشدي) في مجلة (اليمامة) التي كنا ثلاثتنا نعمل بها وتضمنا غرفة واحدة على سطوح مطابع الرياض بحي المرقب بالرياض، في عددها رقم (86) تاريخ 10101389هـ الموافق 19121969م، حيث قال:
(صديق وزميل كبير اسمه عبد الرحيم نصار، شاعر من فلسطين، كل يوم ينكسر داخلياً عشرات المرات، ويحترق ويحزن وينهدم، وله غبار وله دخان، لماذا؟ من أجل فلسطين والغربة والتشرد والضياع، ونحن بكل أرواحنا مع هذا الإنسان.
لديه ديوان عنها عنوانه (الموت مرة واحدة)، يؤمن أن الكلمات على الصفيح الساخن تصبح فكراً ناضجاً، كما أن العجين على الصفيح الساخن أيضاً يصبح خبراً أشقر يغذي الأولاد، ويدر الضرع، وإن شئتم فاسألوا أصحاب المواقد المشتعلة ليلاً!!) انتهى.
وصمت صديقنا (أبو مالك) يذكرني بقول الشاعر (إبراهيم طوقان)، إن لم تخني الذاكرة، عن الفدائي:
صامت لو تكلم
لفظ النار والدم
قل لمن عاب صمته
خُلق الحزم أبكم
وكأني بالشاعر يعني بقوله هذا صديقنا العزيز (أبو مالك) فهو فدائي بأداته الوحيدة الشعر، ولو أن القصيدة الشعرية لا تسقط طائرة (الميراج) حسب تعبير صديقنا الشاعر الكبير الدكتور (غازي القصيبي)!!
إحدى القارئات عتبت على شاعرنا (أبو مالك) لأنه يكتب شعر المقاومة والاغتراب والتشرد ولا يكتب شعراً عن العشق والحب والغرام مثله كمثل غيره من الشعراء، فأجابها شعراً في قوله:
تعاتبني لأني من زمان
ما كتبتُ عن الهوى العذري أغنية
لأن جميع أوراقي على المأساة مطوية
أما تدري المليحة أنني شاعر
أحب كما يحب الناس
أغزل من خيوط الشمس موالي
ولكني تجذر في دمي الأسف المرير
شربتُ مرارة الأحزان للآخر
فلوميني
كما تبغين لوميني
محال أن تهون عليَّ أرض اللوز والدقلي
وأي قصيدة أحلى
من الأوطان أو أغلى!!
والحديث عن أبي مالك صداقة وزمالة ليست قصيرة، ولا تتكرر، ولن تنسى.. لكن أين موقعه اليوم من خارطة الرياض. لعل هذا الموضوع يكون واسطة خير للالتقاء من جديد نقتات من خلاله ذكريات زمن ذهب ولن يعود، ما أحلى ذلك الزمن، وأجمل أهله!!
alawi@alsafi.com
ص. ب (7967) الرياض (11472)
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|