الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th February,2006 العدد : 140

الأثنين 14 ,محرم 1427

الحملة.. قصص قصيرة

محمد منصور الشقحاء
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
الحملة مجموعة قصصية تضم بين دفتيها أربعاً وعشرين أقصوصة تناثر زمنها، ولم يتغير مكانها، وهذا الزمان جاء في بعضها متقارباً وفي البعض الآخر متباعداً، وهي رمز لمعانٍ جليلة خلقت في أعمق أعماق وجدان القاص، ورسمت على أربع وستين صفحة من القطع الصغير، وجاء بها يراع دار إشبيليا للنشر والتوزيع، والطبعة التي بين يدي هي الأولى لعام 1423هـ - 2002م، وفازت الأقصوصة الأولى (الحملة) بحمل عنوان هذه القصص الصغيرة، والسبب كما جاء على لسان القاص ضمن تقديمه لقصصه الذي يقول فيه: (الحملة تأتي في قصص تناثر زمنها ولم يتغير المكان بعضها زمنه تباعد وعدد منها تماس حتى إنه يفصح عن اسم خلق في أعماق الأديب نافذة حزن قلقه، الحملة هنا مفردة تحمل فهماً جديداً ارتبط بمناسك الحج والعمرة وسمو النفس البشرية في رحلتها مع الله، والمرأة من خلال الطفل المعدم لتكون حرساً في صورة جنية يراها كل من يقترب منه، وعامر خلاصة عدد من الشخصيات الطائفية المتدروشة التي جاءت في غير الزمان عشقاً للمكان، ومع النصوص جاء (مجنون أبحر) تغير المكان، ولكن من خلال إنسان طائفي مختلف) وهذه المجموعة القصصية القصيرة جاءت لتخترق هاجس الصمت الحزين الذي يهرب إليه القاص عند تتداعي واختلاف ظروف الحياة، وترصد هذه الباقة القصصية تطلعات منشئها مجسدة ما فيها من أحلام وأمان وتأملات، وما يختلج فيها ويجري في عروقها من تضاد واختلاف وتناقض واتفاق وإحجام وإقدام، ويحاول ناسج هذه القصص الصغيرة أن يرسم الشخصيات بدقة وجمال، على أن يأتي هذا الرسم بلفظ صائب، ومعنى غائر، ينتج عنهما فضاءات دلالية أدبية وجدانية تموج في بحر من التأمل والتفكر والترقب لسراب من الأحلام والآمال والطموحات، وتأمل هذه الدلالات اللفظية، والمرتكزات اللغوية في الأقصوصة السابعة وعنوانها النسخة الأولى، ونصها: (بِوَلَهٍ أخذ يمزق المظروف وبرز الغلاف الموسوم بصورتها، إنها النسخة الأولى من كتابه الجديد، وما أن فتح الغلاف حتى أحس بوخز في باطن كفه الأيمن، أعاد طبق الغلاف كانت صورة عواطف تتموج غائمة بأطراف مدببة، وقع الكتاب على الأرض، أخذت الحروف تنسل متناثرة ومع اندهاشه انفتح الباب، وارتفع صرير مزلاج النافذة لتنفتح على مصراعيها، فامتد خط من الأحرف ومن أوراق الكتاب إلى عنان السماء).
وهذه الدلالات اللفظية، والكلمات المعنوية يستشفها القاص من خلال عالمه الوجداني الذاتي المتكئ على شراك الواقعية والرومانسية، هذا الوجدان جاء غارقاً في التأمل الذاتي، والتفكر العقلاني المنطقي، وهذه السمة التأملية جاءت متوهجة شديدة الإشعاع، ودليل هذا القول الآتي والذي يخترق الحواجز النفسية بين القاص وقراء أقصوصاته، فللقاص مرآته الخاصة التي يرى الناس من خلالها، ويرى نفسه أيضاً من خلالها مستعرضاً أحاسيسه ومشاعره وانفعالاته وانطباعاته حيث تخترق هذه المرايا ذات الإنسان لتجول في حلبة أعماقه الذاتية، وتصول في مصراع أغواره الإنسانية، جاعلة من هذه المرايا جسراً تعبر منه إلى العالم الفسيح المتطاول، ومنفذاً إلى الفضاء الواسع الرحب، ونص هذا القول فحواه: (أخته تترجل من العربة دارت حول الخيمة، لا يوجد أحد، وأخذت تمسح الشاطئ بنظراتها، كان البحر رغم قلقها ساكناً والناس حولهم يملأهم الانشغال، نبهها صوت جاء من خلفها فتركت لفافة كانت تحملها بجوار الخيمة، أمسكت بيد الطفل وغادرت المكان)، وهناك بوح خاطر لم يأتِ عفو الخاطر أو صيده بل جاء قصد الخاطر وإشارته ونصه: (قالت وهي تصلح الخمار على وجهها: منذ زمن أشعر بالحزن، لقد توقف مرجل الحب في أعماقه، فأخذ ينفر من مواعيدي، يتهرب من استقرارنا الموعود، قالت وقد أصبح وجهها قطعة من السواد: إنه يرتكب الأخطاء كل يوم، ومع تجاوزي عن كل ذلك، ذات يوم، أخذ يبكي حتى تلاشى، أصبح ذرات حاولت جمعها لكن هبت الرياح، ولم أتمكن من جمع سوى بقايا).
وفي هذه المجموعة القصصية القصيرة يتجلى الإبداع النثري للقاص: (محمد منصور الشقحاء) وخرجت من خلال قراءتي لها بما يتميز به من قدرة على التعامل مع الحرف والتلاعب به، كذلك تأملاته القوية في ذرى عقلانية نصوصه الأدبية ومنطقيتها، هذه التأملات جاءت دقيقة الوصف، سريعة الرسم، ذكية الوجدان، ثم إنه يصارع الحرف حيناً ويلاطفه حيناً، حتى يأتي عليه أجمع، ويستخرج كل أنفاسه، ويساعده على ذلك لغة الأقصوصات الوصفية الاجتماعية.
وجاءت خواطر القاص متسمة بأسلوب رمزي بليغ، وفيها تفاعل وجداني بين عاطفة منشئ النص وبين متلقيه، مما له أثر في خلق التبادل التأثري بين هذه النصوص القصصية الموجزة وبين قارئها ومتذوقها، وتتعانق النصوص مع القارئ مرة أخرى في تلك الخواطر الشفافة التي تبوح بفلسفة الحياة بلغة إيحائية قوية تجعل القارئ يعيش في جو من العبث والتجدد والتطور، كما استطاع الكاتب أن يعيش واقع شخصياته، ويتفاعل مع أحداثها، وتجربته القصصية تشف عن معانٍ إنسانية عذبة، اتضحت من واقع الشخصيات الاجتماعية واقرأ قوله الآتي تحت العنوان التالي (العجوز) ونصه: (تعمقت في داخلي صورة العجوز الذي كان جالساً أمام باب المسجد يبكي، فتصاعدت الغصة في صدري، تذكرت أني يومها تجاوزته بدون مبالاة، ركضت عندما تعالت زفراته نحو عربتي وغادرت المكان، الطرقات ضيقة، والناس يتحركون أمامي وقد اختفت معالمهم، شيء في ذاتي يتربص بي وعند مدخل المقهى كان اللقاء، دعوته لمشاركتي مجلسي، أمرت النادل بإحضار (شيشة) أخرى كنت أنا وكان أنا.
همس النادل وهو يصلح رأس الشيشة بكلمات مبهمة وغادرني، طال حديثنا، قال: أغصان المكان إليك. قلت: ماذا رغم مرارتي نهض، ترك الغصة تتصاعد في داخلي، فالعجوز يقف في المكان يطلب صدقة، يرجو إحساناً إنه ذاك الزمن وهذا المكان)، ثم اقرأ قوله تحت عنوان (السكين): (نثر حياته في دواخلها حتى توقف نبضه، وأدركت أنها خاطئة انزوت في أحد أركان سطح الدار وأخذت تمزق شرايينها بسكين حادة، لم يفتقدها أحد، صرخ طفل وهو يرى شيئاً أحمر ينداح من مرزاب السطح، ركض الجميع، أخذت تتمتم بشيء، التقت نظراتهم في نظرتها المنطفئة وكان بكاء الصمت).
وتظهر في هذه الأقصوصات تجارب الأديب السعودي مع عالم الحرف، ويظهر إبداعه متألقاً عبر العناوين الجريئة لهذه النثريات وما تضمه بداخلها من نغمات موسيقية قوية الجرس، رقيقة النغمة ومن هذه العناوين: (الخلاص والجذور الثابتة)، و(هتاف لحظة مبهمة) و(هبة النسيم) و(السنديانة) و(حكاية أسطورة) و(توهج) و(الباشق) و(مجنون أبحر) و(ملابس سوداء) وارتاد القاص آفاقاً أدبيةً نثريةً في عالم القصة القصيرة، ويحق لنا القول إن الحركة الأدبية السعودية حفلت بإبداعات براقة جادت بها أنامل أدبائه وأديباته وحبكت في صور جمالية نسجت في عالم من الخيال لا ينأى كثيراً عن الواقع الذي تعيش فيه، هذا العالم المترامي الأطراف له فلسفته وقيمه ومبادؤه فهو يحاكيهم ويحاكونه، ويقص لهم ويقصون له، في خواطر جريئة تسير مسار خطرات النفس الوجدانية، وخطواتها الشاعرية، فلله درهم.


ص.ب: 54753 - الرياض: 11524

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved