التدهور الثقافي.. لماذا؟
|
القراءة وسيلة الاندماج والانخراط في فضاءات المعرفة والولوج في ساحات الثقافة، وتعتبر أحد مكونات البروز والإبداع والواقع المعصرن بشمولية الأفكار والتقاليد والأساليب الاجتماعية والتراكيب المعلوماتية والفردية؛ فظلت القراءة بمفهومها المتعدد وفضائها المتنوع رمزاً لكل فن ومطلباً لكل فرج ومتنفساً حياً لاحتياجات كل جيل وكل حقبة زمنية اشتهرت بالتقدم والرقي والحضارة، ناهيك عن مخاطبة اللغات ومحاكاة الثقافات الأخرى ونافذة مفتوحة تطل على التاريخ بشقيه القديم والحديث والطبائع البشرية والسلوكيات المتعارف عليها لكل أطياف المجتمع الإسلامي والتجمع الإنساني، ويكفي في ذلك ما ذكره توفيق الحكيم في كتابه مختار تفسير القرطبي ص 887 حول الآية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) سورة العلق، بأنها أول ما نزل من القرآن الكريم في قول معظم المفسرين نزل بها جبرائيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم في حراء؛ فعلمه خمس آيات من هذه السورة، وذكر أيضاً ص 891 {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} سورة العلق الآية الرابعة يعني الخط والكتابة؛ أي علم الإنسان الخط بالقلم أ. هـ؛ ففي ذلك نكتة لافتة وهي القراءة أولاً بشروطها وظروفها، وثانياً العلم بتخصصه ونتاجه ثم الكتابة ثالثاً بطقوسها، وفنونها، والكل يعلم أن مع الكتابة ترسخ المعلومة وتستقر المعرفة وتتفاعل الثقافة بأنساقها ونظمها. ومن يستقرئ مباحث الرموز الفكرية والشخصيات الإبداعية، يجد أن القراءة بالنسبة لهم الحراك الأساسي لحياتهم الإنمائية والعطائية؛ فعلى سبيل المثال عملاق الأدب عباس محمود العقاد يقول متباهياً إنه قرأ أربعين (40) ألف كتاب ص 30 منهج العقاد في دراسة الشخصيات الإسلامية لعلي خالد الدالسداني، وأيضاً ذكر عن نفسه في كتابه (أنا) تحت عنوان (لماذا هويت القراءة؟): أنا أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا وحياة واحدة لا تكفي ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطي أكثر من حياة وفي مدى عمر الإنسان الواحد. وذكر أيضاً الكاتب محمد جواد مغنية في كتابه (تجارب محمد جواد مغنية) ص 122 لقد كتبت كثيراً وقرأت أكثر مما كتبت قرأت بالألوف وكتبت بالعشرات، قرأت الجرائد والمجلات والكتب القصار والطوال ولا أزال، فسأله سائل ما بالك تقرأ وتكتب حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين؟ فأجاب: لو تركت لفاتني الركب ومن فاته الركب فهو من الهالكين. أحب أن أقرأ كثيراً وأكتب قليلاً بل لا أحب أن أكتب إلا إذا لم أجد مفراً من الكتابة. أ. هـ.
وقال دكتور الفلاسفة وفيلسوف الدكاترة د. زكي نجيب محمود في كتابه حصاد السنين ص 23: عاش صاحبنا ويقصد ذاته طوال حياته الواعية في عالم الأفكار أكثر مما عاشه مع الناس (ومما لا شك فيه) أن عالمه المذكور لا يخلو من قراءة أو كتابة أو نقاش مفيد في تفاعله الفكري والثقافي. وهذا هو الشاعر العربي الفصيح محمد مهدي الجواهري في كتابه مذكراتي ج 1 الفصل الأول أنه كان يذهب إلى مكتبة آل كاشف الغطاء ويمكث فيها الساعات الطوال والتعاهد المتكرر حتى أنه يحفظ الدواوين الصغيرة، أما الكبيرة فيعاود المجيء بين فترة وأخرى حتى يحفظها؛ مما أدى الأمر إلى تبرم صاحب المكتبة فأغلقها نحوه؛ فاحتمى الشاعر بواسطة قوية أرضت صاحب المكتبة ففتحها من جديد.
وقد ذكر الدكتور زاهد محمد زاهد في كتابه الجواهري صناجة الشعر العربي في القرن العشرين ص 195: تشير المعلومات المتوافرة عن السنين الأولى لحياة الجواهري وظهور ملكة الحفظ لديه إلى أنه حفظ مرة 450 بيتاً من الشعر خلال ثماني ساعات فقط وهذا اللون الغريب فوق الطبيعي لا يتأتى بدون قراءة حاضرة وذاكرة واعية وأداة حية وقد نال بعد ذلك جائزة الرهان الذي عقدوه معه لهذا الغرض. وذكر أيضاً توفيق الحكيم في كتابه ص 86 (سجن العمر): كنت أختفي بمطالعاتي القصصية عن عيون أهلي كما لو كنت أرتكب وزراً من الأوزار، مع أنها في غالبها كانت على مستوى جيد من حيث التأليف والترجمة، كنت أتسلل حاملاً الكتب لأقرأها تحت سريري. كان ذلك السرير مفروشاً بملاءة تتدلى أطرافها على الأرض حاجبة من يختفي تحته كأنها ستارة مسدلة. وذكرت السيرة الذاتية ليحيى حقي خليها على الله ص 22: يسجل يحيى حقي أنه قرأ كل ما وقع تحت يده من كتابات عبد الله النديم، وقال بعد عدة أسطر ص 23 : وقرأ أيضاً كل ما نشر عن دنشواي. والحقيقة بعد ذلك أن يحيى حقي لم يحدثنا باستفاضة عن قراءاته، وهي قراءات واسعة أعانه عليها شغف باللغة (فصحى وعامية). وفي واقع الأمر أنه لا يمكن أن نجعل المعرفة بعيدة عن القراءة أو الكتابة؛ فمثلث الثقافة لا يتم إلا باتحاد أضلاعه الثلاثة المذكورة (العلم، القراءة، الكتابة). وها هي الجريدة الأم (الجزيرة) في عددها 11931 بتاريخ الأحد 2141426هـ تنشر موضوعاً بعنوان (الببلومانيا) جنون الكتب أو الجنون بحبها، ولا شك أن في محاكمتها للواقع الثقافي من خلال الببلومانيا الإيجابية وشخصياتها وشخوصها ارتباطاً وثيقاً بمقتضيات القراءة والاستفادة منها. ومع هذا وذاك ما برحت القراءة تلازم الرعيل الأول وتواكب من ساروا على نهجهم بحيث أصبح الوضع الآن في تأزم حقيقي في جميع جوانبه من خلط المفاهيم واستدعاء الخطاب المصلحي دون الخطاب الإصلاحي والبراغماتي الواقعي وركود في العطاء الثقافي على غرار المنهجية الكلاسيكية إبان ازدهار النهضة الفكرية من أن معظم المؤلفات هي مرجعية في تخصصها على النقيض في عصرنا الحالي من أن التطبيق الفعلي لمؤلفاته يقع تحت النظرة والتأمل. وفي هذا الصدد ذكر الأخ محمد عبد العزيز السماعيل في مقالة له بعنوان (أمة اقرأ لا تقرأ!!): وهم أقل الأمم قراءة وأقلها كتابة واهتماماً بالكتاب، كل هذا حصل لهذه الأمة فيما كانت هذه الأمة هي أول أمة تستفتح رسالتها السماوية بكلمة اقرأ.. شكل الأمة أصبح ثلثها أميين ونصفها يعيش على خيال الشعراء بضجيجه وعجيجه وفيها العدد اليسير من العلماء والباحثين. وكانت هذه الأمة في سالف الزمان تبحث وتنتج وتخترع وكانت خير أمة أخرجت للناس. بينما هي اليوم مضرب المثل في الجهل حيث بلغ عدد الأميين فيها نحو سبعين مليونا. (جريدة اليوم الاثنين 811 1425هـ العدد 11511).
ولسنا في منأى عن مقال الأخ فهد عامر الأحمدي في جريدة الرياض بتاريخ الأربعاء 1041426هـ عدد 13477 حول العالم: (فالإنسان مهما بلغت به الثقافة والحرص لا يستطيع خلال حياته قراءة أكثر من ثلاثة آلاف كتاب وكي يحقق هذا الهدف عليه أن يقرأ ما لا يقل عن خمسين صفحة كل يوم أو خمسين كتاباً في العام). هل نحن فعلاً نقرأ حتى صفحتين كل يوم بعيدين عن التخصص أو أخبار الرياضة والاقتصاد؟ بإجابة هذا الاستفسار نعرف سبب
تدهور المشهد الثقافي والعطاء الفكري!!
واصل عبد الله البو خضر
الأحساء
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|