من قضايا المصطلح الأجنبي الحديث في اللغة العربية (2-2) د.ناصر الدين الأسد*
|
منذ تأسيس إمارة شرقي الأردن نستعمل مصطلح (النِّصَاب) في المدارس للدلالة على عدد الدروس، فنقول:(النصاب التدريسي، لعدد دروس المعلم في الأسبوع، و (النصاب الدراسي)، لعدد دروس التلميذ في الأسبوع. وانتقل المصطلح مع مراحل التعليم حتى وصل إلى الجامعة. وهو مصطلح من صميم ثقافتنا الدينية و الأدبية، وأقرب مثل على ذلك (نصاب الزكاة). ولكن المصطلح عندهم هم(Load) فأتي به إلينا فترجمناه ترجمتين حرفيتين، فقلنا في الجامعات (العبء الدراسي) وقلنا في المدارس (الحمل الدراسي). ولكم أن تدركوا الفرق بين المصطلحين، مصطلح (النصاب) ومصطلح (العبء) أو (الحمل)، من حيث جمالهما اللفظي وأثرهما في النفس! ولكم أيضاً أن تتخيلوا معلم المدرسة أو استاذ الجامعة وهو يسير وعلى ظهره ذلك الحمل أو العبء!!
ومثل ثان: أننا كنا نستعمل في الجامعات مصطلح (المعيد) لمن يعين فيها قبل حصوله على شهادة الدراسات العليا. و (المعيد) مصطلح من صميم تراثنا، إذ كان يعين للشيخ حين يلقي دروسه تلميذ متميز سبق أن أجيز في العلم الذي يدرسه الشيخ، ليساعده وليعيد الدرس أو اجزاءً منه على الطلبة أو يجيب عن أسئلتهم بعد قيام الشيخ من مجلسه. وكان من هؤلاء المعيدين مجد الدين الفيروزأبادي قبل أن يصبح هو نفسه شيخاً، وهو صاحب التآليف المشهورة ومنها (القاموس المحيط). وربما كان للشيخ معيدان أو أكثر بحسب منزلته في العلم وعدد طلبته. ولكن بعض الذين لم تكن لهم صلة بتراثنا، بل لم تكن لهم صلة بالجامعة البتة ممن تولوا أمرها، أوحي إليهم أن من التقدم والرقي هجر هذا المصطلح الثقافي التراثي الإسلامي وإحلال مصطلحهم هم في مكانه وهو:(Research and Teaching (Assistant) فترجمناه ترجمة حرفية فصار:(مساعد بحث وتدريس)!!
ومثل ثالث: أننا كنا دأبنا على استعمال مصطلح (المادة) أو (المقرر) للدلالة على الموضوع أو الدرس. ولكن المصطلح عندهم باللغة الإنجليزية هو (Course) فألقي إلينا، وترجمناه ترجمة حرفية فصار عندنا (المساق)، وهي كلمة جوفاء مفرغة من أي مضمون في هذا السياق، ولا تعني عند العربي إلا أنها مصدر ميمي من الفعل (ساق) وهو لا علاق له البتة بمعنى المادة أو المقرر، حتى إن بعض الطلبة في الجامعة لعدم استيعابهم لمعنى (الكورس) أصبح عندهم يعني مدة زمنية هي (الفصل الدراسي) فيقولون: الكورس الأول والكورس الثاني بمعنى الفصل الأول والفصل الثاني. وذلك لأن هذه الألفاظ الأجنبية بلفظها أو بترجمتها هي منتزعة من بيئة فكرية واجتماعية مغايرة لبيئة هؤلاء الطلبة، فأصبحت لا تضيف معرفة حقيقية ولا ثقافة جديدة، ولكن قيمتها عندهم أنها تلغي المصطلح أو المفهوم المعرفي والثقافي الأصيل بالتدريج وتحل محله، ومع التكرار يصبح لها أثرها في تغريب الفكر أو أمركته. وهذه المصطلحات إنما هي تداعيات للأصل الأكبر الذي استدعاها وهو نظام الساعات المعتمدة الذي ما زال بعد نحو ثلاثين سنة من تطبيقه عندنا قلقاً في التطبيق، لأنه قلق في النفس وفي الفهم.
والغريب أننا جميعاً نشكو من تدني مستويات الجامعات وضعف الخريجين، ونلتمس لذلك أسباباً كثيرة، ولكننا لا نذكر منها هذا النظام الذي هو ككل نظام نابع من فلسفة تعليمية تربوية معينة هي ايضاً نتاج أوضاع اقتصادية واجتماعية تختلف بطبيعتها عن أوضاعنا التي لا شك في أن لها فلسفةً مغايرة، فكيف نبني على هذا الاختلاف والتغاير نظاماً واحداً في الحالتين؟ أهي العولمة التي تهدف إلى سك الناس جميعاً في قالب واحد دون مراعاة للاختلاف والتغاير والتمايز في الثقافات والخصوصيات والبيئات؟ ولو كانت عولمة لاختلف الأمر ولكنها عولمة أحادية يراد فرضها على العالم.
وقد نضيف إلى تلك الأمثلة مثلاً رابعاً في الأردن من خارج الجامعات والتدريس. ذلك أن كلمة (الغور) كلمة مألوفة للعامة في الأردن منذ أقدم ما نعرف في عصرنا، يطلقها الكبير والصغير، العالم والجاهل، الأنثى والذكر، على هذا الشق الجيولوجي الممتد من بحيرة طبرية في الشمال إلى وادي عربة والعقبة في الجنوب.
ولكن ليست في لغة الآخر لفظة تقابل لفظة (الغور) إلا اللفظة العامة وهي الوادي(Valley) فقالوا: وادي الأردن (بدل) الغور وهو عندنا ثلاثة أقسام (أغوار): الغور الشمالي والغور الأوسط والغور الجنوبي. فأخذنا نردد معهم ونقول: و ادي الأردن، وأنشأنا له جهازاً حكومياً سميناه (سلطة وادي الأردن) وهكذا أخذت تضيع بالتدريج كلمة (الغور) التراثية التي يقابلها (النجد) في الأدب الجغرافي العربي.
***
تلك كلها أمثلة مما ابتلينا به في الأردن وأخشى أن تزحف منه إلى غيره من بلادنا العربية كما حدث في نظام الساعات المعتمدة آثرت أن ابدأ بها لأنتقل منها إلى أمثلة أخرى عامة من أنواع تختلف عنها في دلالاتها وموضوعاتها وإن كانت تفعل فعلها في النفوس والعقول. منها مصطلحات عربية أصيلة من ثقافتنا الإسلامية، لجأوا عن طريق الترجمة إلى تفريغها من محتواها، وتعبئتها بمحتوى آخر لا يمت إلى المعنى الأصلي بسبب، وبذلك اختلط المحتويان والمفهومان حتى ضاع المحتوى الأصلي واستقر المصطلح الدخيل. وربما كان من أمثلة ذلك مصطلح (الأصولية) و (الأصولي) الذي اصبح يعني التزمت والتشدد ثم التوسل بالعنف، ترجمةً لكلمة(Fundamentalism) و Fun (damentalist). في حين إنما كانت الكلمة تعني في ثقافتنا (أصول الفقه) و (أصول الدين)، و (الأصولي) هو العالم بهما. ولكن من يجرؤ الآن على وصف أحد بهذه الصفة؟
وهذا يقود إلى نوع آخر من المصطلحات هو وضع ألفاظ لمفاهيم جديدة قد تكون براقة، ولكنها خادعة مضللة مخالفة للحقيقة، مثل مصطلح (النظام العالمي) وهو في حقيقته نظام أحادي تقوده وتفرضه قوة دولة واحدة بما يتضمنه هذا المصطلح من عناصر مكونة له أصبح كل عنصر منها مصطلحاً قائماً بذاته، مثل:
الديمقراطية، وحرية الشعوب، وحقوق الإنسان. وهي مفاهيم لم تطبق الدولة الداعية إليها شيئاً منه، بل طبقت نقيضها. وأصبحت هذه المصطلحات وسائل تهديد للدول التي تحاول أن تنأى بنفسها عن سيطرة تلك القوة وغطرستها. وصارت الدول الساعية إلى التحرير وبناء مجتمعها وتقوية كيانها (دولاً مارقة) تؤلف (محاور الشر).
ومثل ثان من هذا النوع هو مصطلح (الشرعية الدولية) وأكثر ما ينصرف اليه هذا المصطلح إنما هو الاتفاقيات الدولية وخاصة اتفاقية جنيف المتعددة في السلم والحرب وقرارات الأمم المتحدة الصادرة من مجلس الأمن، وفق الفصل السادس أو الفصل السابع، وتوصيات الجمعية العامة التي تتخذ صورة قرارات. وليس في مصطلح (الشرعية الدولية) شيء من الشرعية، لأن الدول القوية إنما تسير وفق مصالحها في تطبيق هذه (الشرعية) وليس وفق نصوصها ولا روحها. وقلما التزمت تلك الدول بتلك الاتفاقيات في حروبها ومعاملاتها للأسرى والمدنيين، والأمثلة على ذلك قديمة حديثة لا يزال بعضها ملء أسماعنا وماثلاً أمام أبصارنا. ومن الواضح لمن يتتبع هذه الموضوعات أن الشرعية تسير في ركاب (القوة) و (المصلحة) وأنه لا علاقة لها بمعاني ألفاظ هذا المصطلح.
***
ونوع رابع من المصطلحات هي تلك التي تصاغ للجمع بيننا وبين غيرنا ومع ذلك يحذف منها ذكرنا، فلا ترد فيها كلمة العرب لا اسماً ولا صفة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك مصطلح (الشرق الأوسط) الذي كثر الحديث عنه وبيان المقصود منه، فقد تنبه كثيرون على أن فيها تغيبياً لوصف العروبة، وطمساً للهوية العربية، وتلييناً للنفوس لتقبل عنصراً غريباً في جسم هذه (الأمة العربية) وفي رقعة (وطنها العربي) ونحن لذلك في غنىً عن تكرار ما قيل في هذا الموضوع. غير أننا نضيف أن هذا التعبير قديم قبل أن تتلاحق علينا المحن في القرن العشرين، ولكنه كان تعبيراً عسكرياً لمناطق جغرافية، ولم يكن يحمل المفاهيم النفسية والسياسية التي وضع لها بعد ذلك. ومصطلح آخر من هذا النوع الرابع هو مصطلح (الشراكة الأوروبية المتوسطية) ولا بد أن يسأل سائل: شراكة أوروبية مع من؟ هل هي بين الأوروبيين وحدهم الذين هم على شاطي البحر المتوسط كما يدل ظاهر ألفاظ المصطلح؟ فإن لم تكن كذلك فلماذا إذن حذف ذكر الشريك الآخر؟ أليس من الصواب أن يكون المصطلح (الشراكة الأوروبية العربية المتوسطية)؟ ولكن هذا لا يحقق أغراض الذين وضعوا المصطلح، لأنه اولاً يبرز الهوية العربية في حين كان المقصود تغييبها كما في مصطلح (الشرق الأوسط). ولأنه ثانياً لا يسمح بإدماج إسرائيل في هذه الشراكة كما يسمح به المصطلحان السابقان!!
ونوع خامس من المصطلحات، وهو الذي يقصد منه تحسين المستنكر، وتخفيف الثقيل على النفس، وتزيين القبيح. ومن أمثلته أن إسرائيل المحتلة لفلسطين حين أرادت طرد العرب الفلسطينيين من أماكنهم ونقلهم إلى أماكن أخرى تحقيقاً لسياستها السكانية (الديموغرافية) أخذت باستعمال تعبير(Expulsion) بمعنى الطرد، وحين أدركت أن هذا المصطلح يلقى استهجان بعض الجهات الأجنبية أخذت تستعمل بدلاً منه مصطلح(Transter) بمعنى النقل أو الانتقال.
***
وبعد..
فهذه خمسة أنواع من المصطلحات أوردتها على سبيل التمثيل وليس على سبيل الحصر، ففي عالم المصطلحات أنواع أخرى كما أن في كل نوع أمثلة كثيرة لم نعرض لها. وحسبنا أن نكرر:
أن النوع الأول فيه محاولة لتغريب فكرنا، ويصبح مع تكراره والإصرار على استعماله حتى يرسخ وسيلةً لمحو مصطلحاتنا الثقافية التراثية التي ألفناها منذ نعومة أظفارنا. وستصبح هذه المصطلحات الدخيلة هي التي تصوغ أفكارنا وآراءنا وبذلك تحدد اتجاهاتنا ومواقفنا وسلوكنا وولاءنا، وتصبح بألفاظها ومدلولاتها مرجعيتنا الثقافية، فيحدث التغيير المطلوب.
أما النوع الثاني فيكاد يقترب من أثره من النوع الأول، إذ إنه يفرغ بعض مصطلحات ثقافتنا من محتواها ويعبئها بمحتوى لا يمت إلى الأصل بصلة، لننسى الأصل ونتمسك بالدخيل.
أما النوع الثالث من المصطلحات ففيه تهديد متكرر لبعض الأنظمة والمجتمعات، لاستمرار ضمان ولائها وخضوعها لما يراد منها، وفيه محاولة لتفكيك ترابط تلك المجتمعات ببث أفكار مبهمة غير محددة، كالديمقراطية، وحقوق الإنسان، ورعاية الإرهاب، وهي ألفاظ ظاهرها حق ولكنها يمكن تفسيرها لتعني الشيء ونقيضه ولتستخدم بحسب مصالح الدول المسيطرة، لتهديد دول أخرى لا تسير في ركابها. وبذلك تكون المصطلحات في حقيقتها أسلحة في حروب الأفكار.
وأما النوع الرابع فهو مكمل للأنواع السابقة، إذ فيه اغفال لذكر الأمة وطمس لهويتها وتمييع لشخصيتها باستعمال مصطلحات جغرافية ليس لها كيان مكاني حقيقي بل ليس لها مفهوم عقلي يدل عليه، وبذلك نصبح في مرجعيتنا مفرغين من أي مضمون، ضائعين في مرجعية غيرنا، تابعين لها.
وأما النوع الخامس فالمقصود به وضع ألفاظ يقبلها السمع للدلالة على مضامين ومعان تكرهها النفوس وترفضها، ومثل هذا يسمى بالإنجليزية(Euphemism) وهو بالعربية (تحسين القبيح).
وأحسب، في ختام هذه الكلمة، أن موضوعات المصطلح، وتحريره، والتنبه على مدلولاته، هي من أهم موضوعاتنا الثقافية التي تحتاج منا إلى يقظة، لأنه سلاح نفسي فكري من أسلحة المعركة التي تشن علينا.
* من محاضرة سبق إلقاء جزءٍ منها في مركز حمد الجاسر.
*وزير التعليم العالي الأردني سابقاً
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|