نص غرد وحيداً.. محمد العطوي
|
«أتيتُ إلى العراق فلم أجد غير دبابات البنتاجون توزِّع الحرية من فوهاتها.. فعدتُ إلى منفاي ثانية»..
بهذه العبارات الراعفة النازفة صدَّر الشاعر المهجري يحيى السماوي إهداءه لي لأحد دواوينه الشعرية بعنوان «رباعيات» والذي أصدره من مهجره في استراليا.
هذا الشاعر الإنسان الذي عرفته قبل عدة سنوات في بهو أحد فنادق الرياض وكنت قد تعرفتُ إليه من خلال شعره لأكثر من عقد من الزمان، هو طائر ليس ككل الطيور إنه طائر أَلِف الترحال والسفر قسراً وترك وطنه مرغماً في عهد كانت فيه الأيدي من حديد والأعين من حديد، وعندما عاد بالأمس القريب حالماً بوطنٍ آمن وعيشٍ كريم وجد أن الوضع لم يتغير كثيرا فالأيدي والأعين أُبدلت بأخرى أشد ضراوة وأحدث نكالاً.
كل شيء يتغير إلا التراب إلا الملامح التي تعرِّي ما بداخلنا، لا تقل إنَّا خُدعنا بمقاصد القوم وأهدافهم فنحن جميعاً نعلم أنهم لم يأتوا «لسواد عيوننا» أو لفرط بياض في قلوبهم يرفض الذل والاستعباد بل نعلم تماماً أنهم أتوا لما أتوا له!!
ولكن ألا نتفق مع الشاعر القديم بأن «بعض الشرِّ أهون من بعض»؟!!. ولست أدري أيّ الشرين أهون؟
آهٍ بحجم حناجر أهلنا المبحوحة وشفاه أطفالنا المتشققة جوعاً وخوفاً، بحجم خيباتنا المتوالية ونكباتنا المتوالدة..
لك الحق ياسيدي أن تذهب إلى أبعد استراليا أو إلى «أبرد» من استراليا فالجو هنا سحب سوداء ثقيلة تكاد تخنق الأنفاس وتغلق الأشرعة المباحة للنظر والأرض متروسة بالحرس مزروعة بالألغام.
لك الحق أن تنفي نفسك كيف تشاء وأن تحلم بما تشاء وأن تمارس متعة الأمل والرجاء بعيداً عن واقع مرير ومستقبل غامض.
لقد تغير الوطن الحلم وأصبح مبالاً لكلابٍ ذات عيون زرقاء بعد أن نفقت تلك الكلاب الأهلية ذات العيون السوداء!! هذا كل ما حدث، أو قل: كلُّ هذا حدث..!
لك أن تعود إلى هارون الرشيد وعهده وان تترحَّم على هولاكو وجنده أولئك الذين هدموا وخرَّبوا رغبة في ظلم وجبروت ولم تكن لهم أهداف سامية ينافحون عنها.
كانت أهدافهم غير معلنة غير مبررة لكنها واضحة، أما هولاكو اليوم فأهدافه المعلنة حرية وديموقراطية وسلام وأدواته الموت والدمار والاحتلال وأجله المسمَّى للرحيل غير مسمَّى وهذا هو مربط الفرس.
ما أكثر الأسئلة وما أغبى الأجوبة وما أوهى المبررات!!
لعل أغباها متى كانت الديموقراطية تُفرض بفوهات الدبابات وبالقنابل الذكية؟!
إبقَ كما أنت حلَّق عالياً وحيداً غرِّد عن بُعد خارج السرب فلم تعد هناك أسراب مغرِّدة.
هناك تستطيع ممارسة الحلم والأمل والتنفُّس فكم من حلم أجمل من واقع وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
الطيور العربية سكنت خوفاً وجزعاً والأسود المهيبة التي ظلت تزأر في وجوه الضعفاء أصبحت تشارك الفئران مخابئها راضية ممنونة.
الأجدى ياسيدي هو ما فعلْتَ فاحمل أبناءك على كتفيك وابق حالماً بعيداً وأحملهم على الحلم بوطنٍ غريق أجمل من كل المدن وأسمى من كل الحضارات، وطن أغلى من أن يُسْكَن وأكبر من أن يُذهب إليه، فهذا أجمل وأسمى من واقع أليم يبعث على الحزن ويعمق الأسى.
«نحن نحلم بالعودة إلى الأوطان والأوطان تحلم بالخلاص».
لقد اتسع الجرح ياسيدي حتى أصبح الوطن جرحاً كبيراً.
بغدادُ موتكِ هذا موتُ أفئدةٍ
ووصْمةٌ في جبين الشرق لم تغبِ
أتوهَبِين لهولاكو بلامقةٍ؟
أتوطئين؟! بأمي أنتِ أو بأبي
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|