مطالعات محمد الحرز في ديوانه الجديد: «أخف من الريش، أعمق من الألم» وصف شعري وامض عبدالحفيظ الشمري
|
الشاعر محمد الحرز يضع ديوانه الجديد «اخف من الريش أعمق من الالم» بين برزخي الشعرية والحكاية، اذ بعمق الشاعر مفهوم الفكرة القوية التي تحرك فعاليات النص ليكون مدهشا في اكتماله كقمر يسعى الى الاكتمال.. نعم «الحرز» يصف كائن «القصيدة» هذا مستندا على مشهد الشعرية المتحول ذلك الذي يراوح بين انسياق مطلق للفكرة، وظهور متلكىء للجرس الشعري الذي يبدو ان الشاعر يهرب منه بوعي تام لا نجادل حوله طويلا.
وصف شعري وامض
لنسلم بداية ان ديوان الشاعر الحرز يهرول نحو النثرية التي يعنى بها كثير، فومضاته في مستهل الديوان تغترف من شغيف مفردة الشعر التي تنادي النهار وكأنه دابة نافقة.
«النهار الذي يشرق في دمي مثلما يشرق كل صباح النهار الذي يعثر على أوتاره في حنجرتي.. النهار الذي يصعد سلالم بيتي..، ويمسح عن احاسيسي عفن الرطوبة..»
«الديوان ص 13»
فالإيجاز الشعري ببني بحجارة الفكرة التي تتوامض بشكل متوازن حتى انها لا تعبأ بالجرس الشعري على نحو ما نراه في هذا المقطع الاستهلالي الذي يتكىء على فكرة المكان تحديداً ليحيلنا الى مشهد قديم لمدينة في الاحساء القديمة..
تلك التي تجعل «النهار» الذي يخاطبه «الحرز» في القصيدة هو من أنهكه وجعل حالته تلامس الجنون، وفضلا عن ذلك سيطرت عليه افكار اخرى عن الامكنة تلك التي افرد لها العديد من القصائد الا ان هذا التوافد لحكاية المكان ظل مقتضبا وامضا يسعى «الشاعر» من خلاله الى إيصال حقيقة الالم او «الوجع» كما يسميه في القصيدة الثانية في الديوان، حيث نراه وقد لخص رحلة العمر «ثلاثون عاماً» في نهار احسائي قائظ.
بين لغة الشعر ورائحة الحكاية
ولنسلم ثانية ان الحرز في ديوانه الجديد قد همش فكرة الخطاب الشعري المألوف، فلم يورد عنونة واضحة للديوان، ولم يشأ أن يمتطي ركوبه الشعر الذي تتحرك في عتقها اجراس القافية، فقد اخذ الشاعر من الشعر هيئته الايحائية، ومن الحكاية رائحتها الانسانية، تلك التي ظل يهيل على القارىء بعض الماحاتها التي تصطبغ بالذاتية المفرطة ليجعل من ذاته مادة حية تحت مجهر التأمل.
بين لغة الشعر الايحائي وبين رائحة حكاية الرجل الثلاثيني تقع مفردة الديوان المهمة.. تلك التي تشير وبوضوح الى ان الشاعر الحرز يكتب سيرة «الرجل» المأخوذ بمنغصاته حتى وكأنك تشم في هذا العناء معضلة بطل روائي تثخنه حراب الزمن الغادرة، تلك التي تسوف وتماطل وتمنحه لغة فريدة من اجل ان يغني بها، وكأن اللغة انشوطة تستميل القارىء وتستدرجه لتطبق على رغبته حتى تأسره بهذا الكم الهائل من المحفزات الحديثة كما في «قصيدة» او «نص» «نصفي هاوية ونصفي الآخر حقل» فلا أستبعد ان الحرز قد عني هذه المزاوجة بين الشعرية والحكائية على هذا النحو.
النص المفتوح.. فضاء رحب
يوسع الشاعر محمد الحرز خصوصية ديوانه إذا تدخل احتماليات اخرى تتوالد مع مزيد من القراءة لترضخ او تستسلم لفكرة حاولت جاهدا ان تعلق فعلها لكنها الآن ومع قراءات أعمق تدرك ان القصيدة تأخذ شكل «النص المفتوح».. ذلك الذي يوسع خصوصية العمل ويفتح آفاقا رحبة وعريضة للنقاش والتأمل واستعادة رغبة الإفصاح العام.
تماما مثلما أورده «الحرز» في نص.. «وكأن الكتابة لا تنمو على الحافة»، فهو في سياق «نص» تأملي يفضي الى تقديم مزيد من لغة «المكان» الذي ينتزع منه الشاعر مفردة خطابه.. فهذه القصيدة او النص الذي اهداه للناقد المبدع «محمد العبد الله العباس» نراه وقد اطنب في شرح تلك الاوهام، والتخيلات المتكدسة حتى ظل سنده ممدوداً الى تدوير منطقي يعود من حيث اتى لتبدأ رحلة البحث عن حياة تلك الحكايات التي خلفها «الاحسائيون» فيما هرم من بيوت ونخيل وما تضاءل من ماء في تلك العيون النازة في الحياة.. وحدها الذكريات الحزينة هي نصه المفتوح وعالمه الحكائي الرحب.
الذاكرة.. وعي الإفصاح
تنحو شعرية الحرز في ديوانه الجديد منحى استدعاء الذاكرة رغبة في تهميش اي دور شعري كان قائما، فقد أضحت لديه القناعات في بحور الشعر وعلبة واهية فها هو يجلد الذاكرة ويستدعي مفردات إفصاحها لتكشف المزيد من خبايا الذات التي ظل العقل الباطن يلوكها حتى وكأنه ادرك حقبته المنكفئة على ذاتها بالخيبات والتأملات الهشة، فهذه الحقبة الزمنية ورغم محدوديتها الا انها أخذت حيزها الحكائي لتطغى على سائر المنثور من مواقف وقصص واحداث نصبها «الحرز» كالفخاخ للقارئة.
الذاكرة هي التي عمد الشاعر الى استنطاقها رغبة منه في سبر غورها المعتم.. ذلك الذي لم يمس منذ بداياتها الاولى لحظة أن كانت تحفظ الاناشيد عن ظهر قلب بلا دليل عقلي واحد:
«لن يجدي نفعا
اذا لم تلتفت الى الوراء
وتقيس الهوة الفاصلة.. بين ليلتين
ولو بغبار النعاس».
«الديوان ص 106»
ونراه في موضع آخر من الديوان يدرك أهمية ما نفصح الذاكرة به ليكون هو الشاهد القوي على معضلة انسانية عميقة هي «كان».. تلك التي تصطف مع اخواتها على حافة نهر الكلام لتقول شعرا خالصا ينبثق صفاؤه من لحظة الاسترجاع الموجعة:
«في هذه اللحظة
اختلطت علي أكثر الامور وضوحا
.. أتلك التي ادرتها الى الخلف
أحزاني..»
«الديوان ص118»
في الديوان صور عدة تحتاج الى مزيد من التأمل العميق من اجل ان تكتمل صورة القراءة مثلما اكتملت صورة المقروءة «هنا» في ديوان «أخف من الريش اقوى من الألم»، فهي رحلة مضنية رغم قصرها، وصوت معبر رغم خفوته وشهادة تثق بالذاكرة كثيرا، ومراوحة دائبة بين الشعرية والحكائية التي استطاع الحرز ان يوجد مواءمة مثالية تأخذ من كل فن بطرف لنقف على الحكاية الشعر، او النص، النثر الفني، او كل جميل يقرب المعنى الذي أراده الشاعر.
إشارة:
* «أخف من الريش، أعمق من الألم» ديوان.
* محمد الحرز. *دار الكنوز الادبية 2003م.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|